عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ؛ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى {بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وَفِي الثَّانِيَةِ بِـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّالِثَةِ بِـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَيَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ فَإِذَا فَرَغَ قَالَ عِنْدَ فَرَاغِهِ: "سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ"؛ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ فِي
ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود (1).
لقد مر الكلام على أهمية الدعاء للمسلمين بالمغفرة والرحمة والتوفيق، ونحو ذلك، وبيان ما يترتب على ذلك من فوائد عظيمة وأجور كريمة، وخيرات متوالية في الدنيا والآخرة، وما من شك إن وجود مثل ذلك بين المسلمين دليل على قوة اللحمة، وشدة الرابطة، ووثوق الصلة، وهو دليل أيضاً على كمال العقل وسلامة الصدر ورجاحة الفهم، والمسلم الموفق يكون دائماً محباً الخير لإخوانه المسلمين، عطوفاً عليهم، رحيماً بهم، راجياً صلاحهم وفلاحهم وهدايتهم، متمنياً تحقق الخير لهم، مكثراً من دعاء الله وسؤاله لهم، ومن كان كذلك فهو حري بأن يكون من الشهداء والشفعاء للناس يوم القيامة، ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود (1).
قال ابن القيم رحمه الله في معنى هذا الحديث: "إن الشهادة من باب الخبر، والشفاعة من باب الطلب، ومن يكون كثير الطعن على الناس، وهو الشهادة عليهم بالسوء، وكثير اللعن لهم، وهو طلب السوء لهم لا يكون شهيداً عليهم ولا شفيعاً لهم؛ لأن الشهادة مبناها على الصدق، وذلك لا يكون فيمن يكثر الطعن فيهم، ولا سيما فيمن هو أولى بالله ورسوله منه،" والشفاعة مبناها على الرحمة وطلب
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 2598)، وسنن أبي داود (رقم: (4907)، والمسند (6/ 448).
الخير، وذلك لا يكون ممن يكثر اللعن لهم، ويترك الصلاة عليهم" (1).ولهذا حري بالمسلم أن يكون مصلياً على إخوانه المسلمين، محباً الخير لهم، مبتعداً عن لعنهم وسبهم والوقيعة فيهم؛ إذ ليس ذلك من شأن المسلم ولا من خُلُقِهِ.
روى الحاكم عَنْ عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا" (2).
وروى الإمام أحمد والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ" (3).
وثبت في صحيح البخاري ومسلم عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" (4)، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وهذه أقل أحوال المسلم إن لم يكن داعياً لإخوانه المسلمين، باذلاً الخير لهم، ساعياً في حاجتهم ومصالحهم، فلا أقل من أن يكون كافاً عن أذيتهم وإيصال الشر لهم.
_______________________
(1) الصواعق المرسلة (4/ 1505).
(2) المستدرك (1/ 47)، وانظر: سنن الترمذي (رقم: 2019)، ورواه مسلم (رقم: 2597) بلفظ: "لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً".
(3) المسند (1/ 404)، وسنن الترمذي (رقم: 1977)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم: 320).
(4) صحيح البخاري (رقم: 10)، وصحيح مسلم (رقم: 41).
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ فَيَعْمَلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ فَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ قَالُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَيَأْمُرُ بِالْخَيْرِ أَوْ قَالَ بِالْمَعْرُوفِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: فَيُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ" (1).ففي هذا دليل على أنه لا أقل من الإمساك عن الشر إن لم يحصل من المسلم فعل الخير لإخوانه المسلمين، وتقديمه المساعدة لهم.
وليعلم أن لعن المسلمين على مراتب، أخطرها وشرها لعن خيارهم ومقدميهم وأفاضلهم، كالصحابة ومن اتبعهم بإحسان من ذوي العلم والفضل والإيمان، ومثل ذلك لا ينشأ إلا عند ذوي القلوب المريضة والأهواء البغيضة من أهل الأهواء والبدع.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" (2).
وروى ابن ماجه عَنْ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّه كَانَ يَقُولُ: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمُقَامُ أَحَدِهِمْ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عُمْرَهُ" (3)،
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 1445)، وصحيح مسلم (رقم: 1008).
(2) صحيح البخاري (رقم: 3673)، وصحيح مسلم (رقم: 2540).
(3) سنن ابن ماجه (رقم: 162)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه (رقم: 133).
فمن أضل ممن يكون في قلبه غل لخيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.وهكذا الشأن أيضاً فيمن يتناول بالطعن علماء الأمة وخيارهم من ذوي العلم والفقه والنصح للمسلمين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن الكلام السائر: لحوم العلماء مسمومة" (1).
وهكذا الشأن في لعن أموات المسلمين الذين أفضوا إلى ما وقعوا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الكلام في لعنة الأموات أعظم من لعنة الحي، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا" (2)، حتى إنه قال: " لَا تَسُبُّوا مَوْتَانَا فَتُؤْذُوا أَحْيَاءَنَا" (3)، لما كان قوم يسبو أبا جهل ونحوه من الكفار الذين أسلموا أقاربهم فإذا سبوا ذلك آذوا قرابته" (4).
وأما ما يتعلق بلعن العصاة والفساق وذوي الفجور من أهل الملة، فإن السنة لم تأت بالأمر بلعن الفاسق المعين، وإنما جاءت السنة بلعنة الأنواع، كقول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ" (5).
_______________________
(1) الصارم المسلول (ص: 143).
(2) صحيح البخاري (رقم: 1393).
(3) المسند (4/ 252)، وسنن الترمذي (1982)، بلفظ مقارب، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 7312).
(4) منهاج السنة (4/ 572 - 573).
(5) صحيح البخاري (رقم: 6783)، وصحيح مسلم (رقم: 1687).وقوله: "لَعِن اللهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا" (1)، وقوله: "لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ" (2)، وقوله: "لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ" (3)، وقوله: "لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَشَارِبَهَا وَآكِل ثَمَنَّهَا" (4).
وقد تنازع العلماء في لعنة الفاسق المعين، فقيل: إنه جائز، وقيل: إنه لا يجوز، والمعروف عن الإمام أحمد رحمه الله كراهة لعن المعين، وأن يقول كما قال الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ} (5)، وقد ثبت في صحيح البخاري: "أن رجلاً كان يدعى حماراً، وكان يشرب الخمر، وكان يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيضربه، فأتى به إليه مرة، فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يُؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه، فإنه يحب الله ورسوله" (6).
_______________________
(1) انظر: صحيح البخاري (رقم: 1870)، وصحيح مسلم (رقم: 1370).
(2) صحيح مسلم (رقم: 1598).
(3) سنن أبي داود (رقم: 2076)، وسنن الترمذي (رقم: 1120)، وسنن ابن ماجه (رقم: 1936)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الإرواء (رقم: 1897).
(4) المسند (1/ 316)، (2/ 71)، وسنن أبي داود (رقم: (3673)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الإرواء (رقم: 2385).
(5) سورة هود، الآية: (18).
(6) انظر: صحيح البخاري (رقم: 6780).
فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنة هذا المعين الذي كان يكثر شرب الخمر معللاً ذلك بأنه يحب الله ورسوله، مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر مطلقاً، فدل ذلك على أنه يجوز أن يُلعن المطلق، ولا يجوز أن يلعن المعين الذي يحب الله ورسوله (1)، وعلى كلٍّ فاللعن وعيد، والوعيد لا يستلزم ثبوته في حق المعين إلا إذا وجدت شروطه وانتفت موانعه، والله أعلم.
_______________________
(1) منهاج السنة (4/ 567 - 574).
التصنيف | فضل الدعاء للمؤمنين والإمساك عن الطعن فيهم |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |