التصنيفات

قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ} (1)

لا يزال الحديث ماضياً في الكلام على رفع اليدين إلى الله عز وجل حال الدعاء، ذلكم الأدب الرفيع من المخلوق الفقير المحتاج مع ربه الغني الجواد الكريم؛ حيث يظهر المخلوق برفعه يديه احتياجه لربه، وافتقاره إليه، وذله وخضوعه وانكساره بين يدي ربه، وكلما عظمت حاجة المخلوق واشتدت رغبته وزاد إلحاحه بالغ في رفعه يديه وزاد في مدهما إلى الله متذللاً متوسلاً، ولهذا لما كان دعاء الاستسقاء فيه من الرغبة والإلحاح ما ليس في غيره كان رفع النبي صلى الله عليه وسلم وإشارته فيه أعظم منه في غيره، وفي ذلك أعظم دلالة على توحيد الله وتعظيمه وتكبيره والإيمان بعلوه على خلقه وقيوميته، وغناه الكامل عنهم وافتقارهم واحتياجهم إليه، كما قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ} (1)، وقال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۗ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ ۚ} (2).

ففي رفع اليدين إلى الله إقرار بقيوميته الله جل وعلا، وأنه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس، وأنه المدبر للأمور كلها، والمتصرف في الخلائق جميعهم، ومن كان كذلك فهو المستحق أن يؤله ويعبد ويصلى له ويسجد، وهو المستحق نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، وهو المطاع المعبود وحده على الحقيقة {ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِۦ هُوَ ٱلْبَٰطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ} (3)،
_______________________
(1) سورة فاطر، الآية: (15).
(2) سورة الرعد، الآية: (33).
(3) سورة الحج، الآية: (62).

فكل عبودية لغيره باطلة وعناء وضلال، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى لغيره           فقر وضلال وكل عز بغيره دل وصغار، وكل تكثر بغيره قلة وفاقة، فهو الذي انتهت إليه       الرغبات، وتوجهت نحو الطلبات، وأنزلت ببابه الحاجات {يَسْـَٔلُهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍۢ} (1).

وفي مد اليدين إلى الله إقرار بأن الله كريم جواد محسن، يجيب الداعين ويغيث الملهوفين ويعطي السائلين، لا يتعاظمه ذنب أو يغفره، ولا حاجة يسألها أن يعطيها، لو أن أهل سمواته وأهل أرضه إنسهم وجنهم حيهم وميتهم رطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، وسعت رحمته كل شيء يمينه ملأي لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وفي الحديث: "إِنَّ رَبَّكُم حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا" (2).

وفي مد اليدين إلى الله إقرار بعلم الله، وإحاطته بخلقه، واطلاعه عليهم، وأنه لا تخفى عليه منهم خافية، لا يشغله سبحانه سمع عن سمع، ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة، يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في ظلمة الليل، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة، ومخها وعروقها ولحمها وحركتها، ويرى مد البعوضة جناحها في الليل المظلم.
_______________________
(1) سورة الرحمن، الآية: (29).
(2) سنن أبي داود (رقم: 1488)، وسنن الترمذي (رقم: 3556)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 1753).

وفي مد اليدين إلى الله إقرار بعلوه على خلقه؛ ذلك أن الذين يرفعون أيديهم إلى السماء وقت الدعاء تقصد قلوبهم الرب الذي هو فوق عباده، وتكون حركة جوارحهم بالإشارة إلى فوق تبعاً لحركة قلوبهم إلى فوق، وهذا أمر يجده كل داع وجداً ضروروياً، إلا من تغيرت فطرتهم وانحرفت عقيدتهم، وعلو الله على خلقه قامت عليه الأدلة الكثيرة والبراهين العديدة، فدل عليه الكتاب الكريم والسنة الثابتة وإجماع الأمة والعقل السليم والفطر المستقيمة، حُكي عن أبي جعفر الهمداني: أنه حضر مجلس أبي المعالي الجويني - أحد علماء الكلام - فذكر العرش وقال: كان الله ولا عرض، ونحو ذلك، يريد بذلك أن يتوصل إلى إنكار علو الله، فقال له الهمداني: يا شيخ، دعنا من ذلك، وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة لطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فضرب أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني.

والهمداني رحمه الله إنما بين ما يقوم في قلب كل داع عندما يقول: يا الله، من حركة في قلبه ضرورية إلى العلو، وهذا يقتضي أنه مركوز في الفطر أن الله فوق عباده علي على خلقه.

وإذا أقر العبد بذلك يصير لقلبه صمد يتجه إليه مناجياً له، مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز، فيشعر بأن كلامه وعمله صاعد إليه معروض عليه، فيستحيي أن يصعد إليه من كلامه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويجتهد في قول الخير وفعل الخير لعلمه بأنه سبحانه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّٰلِحُ يَرْفَعُهُۥ ۚ } (1).

ولهذا فإنه لا ينكر علو الله على خلقه إلا ضلال الناس وجهالهم ممن تحولت فطرهم وانحرفت عقائدهم وصدهم الشيطان عن سواء السبيل، وإلا فكيف يصح من عاقل إنكار علو الله مع كثر الشواهد على ذلك وتنوع البراهين، من ذلك كما تقدم أن المؤمنين جميعهم عندما يدعون الله يرفعون أيديهم إلى الله ويمدونها نحوه، وهذا إجماع منهم على علو الله على خلقه.

قال أبو الحسن الأشعري: "ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا نحو الأرض".

وهذا الاحتجاج منه رحمه الله احتجاج بإجماع المسلمين على رفع أيديهم في الدعاء على أن الله فوق سمواته عالٍ على خلقه؛ لأنهم إنما يرفعون إليه نفسه لا إلى غيره.

ولهذا فإن غالب النفاة لأن يكون الله فوق العرش فيهم من الانحلال عن دعاء الله ومسألته وعبادته بقدر ما قام في قلوبهم من إنكار لعلو الله على خلقه، إلا من يكون منهم جاهلاً بحقيقة مذهبهم فيوافقهم بلسانه على قول لا يفهم حقيقته، وفطرته على الصحة والسلامة، فإذا استحوذ قولهم على قلبه انحرفت فطرته وتغيرت (2)، فنحمد الله تعالى على السلامة من هذه الأهواء ونسأل الله رافعين أيدينا إليه الثبات على الحق والعزيمة على الرشد، فإنه تبارك وتعالى نعم المجيب.
_______________________
(1) سورة: فاطر، الآية: (10).
(2) انظر: نقض تأسيس الجهمية (2/ 445- 451).

التصنيف الدلائل والمعاني المستفادة من رفع اليدين
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0