التصنيفات

قال الله تعالى: {وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍۢ} (3)، وقال تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ} (4)

سبقت الإشارة إلى أن من آداب الدعاء العظيمة أن يقدم الداعي بين يدي دعائه التوبة إلى الله عز وجل من كل ذنب وخطيئة، فإن تراكم الذنوب واجتماعها قد يكون سبباً من أسباب عدم إجابة الدعاء، كما أن التوبة والإقبال على الله والصدق معه سبب من أسباب القبول والإجابة؛ ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: "لا تستبطئ الإجابة إذا دعوت وقد سددت طرقها بالذنوب" (1).

فالذنوب لها عواقب وخيمة ونتائج أليمة في الدنيا والآخرة، فهي تزيل النعم وتحل النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة" (2)، وقد قال الله تعالى: {وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍۢ} (3)، وقال تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ} (4)، فأخبر سبحانه أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غير غُير عليه جزاء وفاقاً.
_______________________
(1) رواه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 54).
(2) ذكره ابن القيم في الجواب الكافي (ص: 85).
(3) سورة الشورى، الآية: (30).
(4) سورة الأنفال، الآية : (53).

ثم إن الذنوب سبب لهوان العبد على ربه، وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد، كما قال تعالى: {وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكْرِمٍ ۚ } (1)، وأكرم الخلق عند الله أتقاهم له، وأقربهم منه منزلة أطوعهم له، وعلى قدر طاعة العبد تكون منزلته عنده، فإذا عصاه هان عنده، وأوجب ذلك القطيعة بين العبد وبين مولاه، وإذا وقعت القطيعة انقطعت عن العبد أسباب الخير واتصلت به أسباب الشر، فأي فلاح، وأي رجاء، وأي عيش لمن انقطعت عنه أسباب الخير وقطع ما بينه وبين وليه ومولاه الذي لا غنى له عنه طرفة عين ولا أقل من ذلك.

ثم إن الذنوب تستدعي نسيان الله لعبده وتركه وتخليته بينه وبين نفسه وشيطانه، وهناك الهلاك الذي لا يُرجى معه نجاة، قال الله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍۢ ۖ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَٱلَّذِينَ نَسُوا ٱللَّهَ فَأَنسَٰهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ} (2)، فأمر سبحانه بتقواه ونهى أن يتشبه عباده المؤمنون بمن نسيه بترك تقواه، وأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه، أي: أنساه مصالحها وما ينجيها من عذابه، فترى العاصي مهملاً مصالح نفسه، مضيعاً لها، قد انفرطت عليه مصالح دينه ودنياه، بل إن أموره تتعسر عليه، فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه، وهذا كما أن من اتقى الله جعل له من امره يسرا، فمن عطل التقوى جعل له من أمره عسرا، فالخير والراحة والسعادة والطمأنينة في الطاعة، والشر والشقاوة والتعسير في المعصية.
_______________________
(1) سورة الحج، الآية: (18).
(2) سورة الحشر، الآيات: (18-19).

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن للحسنة ضياء في الوجه ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق" (1).

وعلى كل فالذنوب تحدث للعبد أضراراً كثيرة في قلبه وبدنه وماله وحياته كلها، فليس في الدنيا شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي، ولها من الآثار القبيحة والنتائج المذمومة والمضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما يعلمه إلا الله (2).

ولهذا فإن الواجب على كل مسلم أن يحذر أشد الحذر من الذنوب والمعاصي، وأن يتوب إلى الله عز وجل من كل ذنب وخطيئة، وأن ينبت إلى ربه ومولاه لينال السعادة والطمأنينة وليتحقق له الفلاح في الدنيا والآخرة قال الله تعالى: {وَتُوبُوٓا إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3)، فلا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً، ولهذا فإن التوبة واجبة ومتعينة على كل مسلم ومسلمة والأدلة على وجوبها متظاهرة في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
_______________________
(1) ذكره ابن القيم في الجواب الكافي (ص: 62).
(2) انظر: الجواب الكافي لابن القيم (ص: 46- 105).
(3) سورة النور، الآية: (31).

قال الله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوٓا إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـَٔاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ} (1).

وروى مسلم في صحيحه عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ" (2).

قال النووي رحمه الله في كتابه العظيم رياض الصالحين: "قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية، والثاني:أن يندم على فعلها، والثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً، فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته.

وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، وإن كان حد قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها، ويجب أن يتوب من جميع الذنوب، فإن تاب من بعضها صحت توبته عند أهل الحق من ذلك الذنب، وبقي عليه الباقي، وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة" (3)، ثم ساق رحمه الله جملة من أدلة الكتاب والسنة الدالة على ذلك.

فحري بالمسلم أن يكون تائباً إلى ربه، منيباً إليه؛ لترتفع درجاته، وتقال عثراته، وتقبل دعواته، وتعلو منزلته عند ربه، وإنا لنرجو الله أن يكتب لنا توبة نصوحاً، وأن يوفقنا لكل خير يحبه ويرضاه
_______________________
(1) سورة التحريم، الآية: (8).
(2) صحيح مسلم (4/ 2076).
(3) رياض الصالحين (ص: 7).

التصنيف التوبة من الذنوب بين يدي الدعاء
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0