عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ أَنََّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَى الْمَرِيضَ يَدْعُو لَهُ (1)، قَالَ: "أَذْهِبْ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا" (2).
قال الله تعالى: {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ} (1)، وقال تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2)
لا يزال الحديث موصولاً في بيان دعاء المسلم لإخوانه المسلمين الذي هو من مقتضيات أخوة الإسلام التي تجمعهم، ورابطة الدين التي تربطهم، كما قال الله تعالى: {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ} (1)، وقال تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2)، وما من ريب أن من متطلبات هذه الأخوة ومقتضياتها الدعاء من كل فرد من أفراد المسلمين لعموم المسلمين بالخير والعافية والمغفرة والرحمة ونحو ذلك؛ إذ المسلم يحب لإخوانه ما يحبه لنفسه من الخير، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (3)، وقد سبق أن مر جملة من الأدلة الدالة على فضل الدعاء للغير، وعظم ما يترتب على ذلك من الأجر والثواب والخير.
ومما يحسن أن يعلم في هذا المقام أن كل دعاء يدعو به المسلم لا يخلو من أقسام أربعة، وذلك باعتبار المدعو له:
أحدها: أن يدعو المسلم لنفسه بما يشاء من خيري الدنيا والآخرة، كأن يقول: "اللهم إني أسألك الهدى والسداد"، أو يقول: "اللهم اغفر لي ذنبي"، ونحو ذلك من الأدعية، فيأتي بها بلفظ الإفراد، حتى الإمام في الصلاة في الأدعية التي يدعو بها لنفسه في السجود أو في الجلسة بين السجدتين، أو في آخر الصلاة قبل السلام.
_______________________
(1) سورة التوبة، الآية: (71).
(2) سورة الحجرات، الآية: (10).
(3) صحيح البخاري (رقم: 13)، وصحيح مسلم (رقم: 45).
قال ابن القيم رحمه الله: "والمحفوظ في أدعيته كلها بلفظ الإفراد، كقوله: "رب اغفر لي وارحمني واهدني" (1)، وسائر الأدعية المحفوظة عنه، ومنها قوله في دعاء الاستفتاح: "اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ للَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" الحديث (2)، وروى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وَلَا يَؤُمَّ قَوْمًا فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ" (3)... ثم قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث عندي في الدعاء الذي يدعو به الإمام لنفسه وللمأمومين، ويشتركون فيه كدعاء القنوت ونحوه" (4).ثم إنه إذا كان الدعاء الذي دعا به في صلاته من أدعية القرآن الكريم فإنه يأتي به على الصيغة التي وردت في القرآن الكريم، كقوله تعالى: {ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ}، فهذا دعاء عظيم يدعو به المسلم في صلاته، بل في كل ركعة من ركعات الصلاة، ووجه الإتيان بصيغة ضمير الجمع في هذا الدعاء - كما بين ذلك ابن القيم رحمه الله - ليكون مطابقاً لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}،
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 2696).
(2) صحيح البخاري (رقم: 744)، وصحيح مسلم (رقم: 595).
(3) المسند (5/ 280)، وسنن أبي داود (رقم: 90)، وسنن الترمذي (رقم: 357)، وسنن ابن ماجه (رقم: 923)، وذكره العلامة الألباني رحمه الله في ضعيف سنن أبي داود (رقم: 15).
(4) زاد المعاد لابن القيم (1/ 263- 264).
"والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم، فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب تعالى وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته، فأتى به بصيغة ضمير الجمع، أي: نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية" (1).وأما القسم الثاني من أقسام الدعاء باعتبار المدعو له، فهو أن يدعو المسلم لغيره بالهداية أو المغفرة أو نحو ذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه لأنس بن مالك رضي الله عنه: "اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَبَارِكْ لَهُ فِيمَا رزقته" (2)، وكقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِهِ وَاهْدِ بِهِ" (3)، وهذه تعد منقبة عظيمة لهذا الصحابي الجليل، الذي هو خال المؤمنين، وكاتب وحي رب العالمين، وأحد خلفاء المسلمين، وأول ملوكهم، وخير ملوكهم رضي الله عنه وأرضاه، ومن ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه له: "اللَّهُمَّ عَلِّمْ مُعَاوِيَةَ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ وَقِهِ الْعَذَابَ" (4).
_______________________
(1) انظر: بدائع الفوائد (2/ 39).
(2) صحيح البخاري (رقم: 6378)، وصحيح مسلم (رقم: 2480).
(3) المسند (4/ 216)، وسنن الترمذي (رقم: 3842)، والطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 292)، واللفظ له، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم: 1969).
(4) المسند (4/ 127).القسم الثالث: أن يدعو لنفسه ولغيره، فيبدأ بالدعاء لنفسه أولاً ثم يدعو لغيره؛ لحديث أبي كعب رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا فَدَعَا لَهُ بَدَأَ بِنَفْسِهِ"، رواه الترمذي (1).
وفي القرآن الكريم من هذا النوع أمثلة عديدة، كقوله تعالى: {وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنۢبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ ۗ} (2)، وقوله: {رَّبِّ ٱغْفِرْ لِى وَلِوَٰلِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ} (3)، وقوله: {رَبَّنَا ٱغْفِرْ لِى وَلِوَٰلِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ٱلْحِسَابُ} (4)، وهذا يقوله الداعي عندما يريد الدعاء لنفسه ولغيره، وأما إن أراد الدعاء لغيره فقط، فلا يلزمه في هذه الحالة أن يدعو لنسه، كما ورد مثل ذلك في كثير من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم معنا في دعائه صلى الله عليه وسلم لأنس، ودعائه لمعاوية رضي الله عنهما.
القسم الرابع: أن يدعو لنفسه ولغيره بضمير الجمع، كما في دعاء القنوت، ودعاء الاستسقاء، ودعاء الخطيب يوم الجمعة.
_______________________
(1) سنن الترمذي (رقم: 3385).
(2) سورة محمد، الآية: (19).
(3) سورة نوح، الآية: (28).
(4) سورة إبراهيم، الآية: (41).ومن ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قَالَ: "قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنْ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا وَلَا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا" (1)، فهذه أقسام أربعة للدعاء باعتبار المدعو له.
ويُستحب للمسلم أن يدعو لمن أحسن إليه، ولا سيما قول جزاك الله خيراً، فإنها أبلغ ما يكون في الدعاء، لما ثبت في المسند عن عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ" (2)، وفي الترمذي عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ" (3)، والحمد لله رب العالمين.
_______________________
(1) سنن الترمذي (رقم: 3502).
(2) المسند (2/ 68، 99)، والأدب المفرد (رقم: 216)، وصححه الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم: 254).
(3) سنن الترمذي (رقم: 2035)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 6368).
التصنيف | أقسام الدعاء باعتبار المدعو له |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |