ثبت في سنن أبي داود وسنن ابن ماجه وغيرهما من حديث عبد الله بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي وَاحْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي" (1).
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا" (1)، وجاء عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما موقوفاً ومرفوعاً "الْمَسْأَلَةُ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ أَوْ نَحْوَهُمَا وَالِاسْتِغْفَارُ أَنْ تُشِيرَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ وَالِابْتِهَالُ أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جَمِيعًا" (2)
لا يزال حديثنا عن رفع الأيدي في الدعاء، وقد سبق الكلام على فائدة ذلك وأهميته في الدعاء، وأنه سبب من أسباب قبوله؛ لما في ذلك من إظهار الافتقار والاستكانة والحاجة إلى الرب الكريم، حيث يمد العبد يديه إليه مستطعماً، سائلاً، متذللاً، والله جل وعلا لا يرد يدين مدت إليه صفراً خائبتين.
وإن مما يجب على المسلم أن يعتني به في هذا الباب الحرص على معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وترسم خطاه، ولزوم منهجه، والبعد عما أحدثه الناس من صفات في الرفع وهيئات، وحركات لم تثبت عن خير الأمة وأكملهم دعاء وطاعة لله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا" (1)، وجاء عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما موقوفاً ومرفوعاً "الْمَسْأَلَةُ أَنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ أَوْ نَحْوَهُمَا وَالِاسْتِغْفَارُ أَنْ تُشِيرَ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ وَالِابْتِهَالُ أَنْ تَمُدَّ يَدَيْكَ جَمِيعًا" (2)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التعليق على هذا الحديث:
_______________________
(1) سنن أبي داود (رقم: 1486)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم: 595).
(2) سنن أبي داود (رقم: 1489)، (1490)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 6694)."فجعل المراتب ثلاثة: الإشارة بأصبع واحدة كما كان يفعل يوم الجمعة على المنبر، والثانية: المسألة، وهو أن يجعل يديه حذو منكبيه كما في أكثر الأحاديث، والثالثة: الابتهال" (1). اهـ. فعلى المسلم أن ينظر إلى الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فيلتزمه ويتقيد به، فهديه صلى الله عليه وسلم خير الهدي، وليحذر المسلم من تكلفات الناس وتجاوزاتهم في هذا الباب، فقد كان السلف رحمهم الله يحذرون من جعل صفة من الصفات المأثورة في غير موضعها المشروع، كمن يرفع يديه في الدعاء وهو على المنبر يوم الجمعة في غير الاستسقاء، مع أن رفع اليدين في الدعاء مشروع في غير هذا الموطن.
روى مسلم في صحيحه عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه، فقال: "قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة" (2)، فكيف بمن يخترع في الرفع صفات لا أساس لها أو حركات لا أصل لها، ومن يتأمل أحوال الداعين يرى منهم عجباً في هذا الباب (3).
ومن ذلك أن بعض الداعين ينزل في رفعه يديه مفرقتين أو مجموعتين إلى ما تحت السرة أو إلى السرة، ولا يخفى ما في ذلك من عدم المبالاة، وقلة الاهتمام بهذا الأمر العظيم.
ومنهم من يجعل يديه عندما يرفعهما مفرقتين، رؤوس الأصابع إلى القبلة والإبهامان إلى السماء، ولا يخفى ما في ذلك من المخالفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم "إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ".
_______________________
(1) انظر: ثلاثيات المسند للسفاريني (1/ 653).
(2) صحيح مسلم (رقم: 874).
(3) انظر: تصحيح الدعاء للشيخ بكر أبو زيد (ص: 126- 129).
ومنهم من يقلب يديه إذا رفعهما في الدعاء إلى جهات عديدة أو يقوم بهزهما أو يحركهما حركات متنوعة.ومنهم من إذا دعا أو قبل أن يدعو يمسح إحدى اليدين بالأخرى و ينفض يديه ونحو ذلك، ومنهم من يقبل يديه بعد رفعهما للدعاء، وهذا لا أصل له.
ومنهم من إذا دعا مسح وجهه بيديه بعد الدعاء، وهذا ورد فيه بعض الأحاديث إلا أنها لا تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في الدعاء فقد جاء فيه أحاديث كثيرة صحيحة، وأما مسحه وجهه بيديه فليس عنه فيه إلا حديث أو حديثان لا يقوم بهما حجة" (1).
ومن الهيئات المحدثة في رفع اليدين تقبيل الإبهامين ووضعهما على العينين عند ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم في الأذان أو غيره، وقد روي في ذلك حديث باطل لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظه: "من قال حين يسمع أشهد أن محمداً رسول الله: مرحباً بجبيبي وقرة عيني محمد بن عبد الله ثم يقبل إبهامه ويجعلهما على عينيه لم يعم ولم يرمد أبدا"، وقد نص غير واحد من أهل العلم على أن هذا الحديث باطل لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم (2)، ومن خزعبلات المتصوفة أن
_______________________
(1) الفتاوى (22/ 519)، وانظر" جزء في مسح الوجه باليدين بعد رفعهما للدعاء للشيخ بكر أبو زيد.
(2) انظر: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة (ص: 20).
بعضهم ينسب ذلك لقول الخضر عليه السلام (1).ومن الأمور المحدثة في ذلك ما يفعله بعضهم حيث يجمع أصابع يده اليمنى ويجعلها على عينه اليمنى وأصابع يديه اليسرى على عينه اليسرى ثم يهمهم بالقراءة أو الدعاء.
ومن الأمور التي تفعل ولم تثبت أن بعضهم يجعل يده اليمنى على رأسه عقب السلام من الصلاة يدعو، ويستندون في ذلك إلى ما يروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قضى صلاته مسح جبهته بيده اليمنى ويقول: بسم الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، اللهم أذهب عني الغم والحزن"، رواه الطبراني في الأوسط والبزار، وهو حديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (2)، ومن الأخطاء في هذا الباب أن بعض المصلين قد يشير بالسبابتين في التشهد، وقد ثبت في الحديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على إنسان يدعو وهو يشير بأصبعيه السبابتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ أحد"، رواه الترمذي (3).
_______________________
(1) انظر: كشف الخفاء للعجلوني (2/ 270).
(2) المعجم الأوسط (رقم: 2499).
(3) سنن الترمذي (رقم: 3557)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (رقم: 2820).
ومن المخالفات في هذا الباب أن بعض الداعين قد يخصص أوقاتاً يرفع فيها يديه بالدعاء دون مستند شرعي لذلك التخصيص كمن يرفع يديه بعد إقامة الصلاة وقبل تكبيرة الإحرام، وكرفع اليدين عقب السلام من الصلاة المفروضة جماعياً أو كل بمفرده، قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله: "لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه بعد صلاة الفريضة، ولم يصح ذلك أيضاً عن أصحابه رضي الله عنهم فيما نعلم، وما يفعله بعض الناس من رفع أيديهم بعد صلاة الفريضة بدعة لا أصل لها" (1).ومن ذلك أيضاً رفع الأيدي بالدعاء بعد سجود التلاوة، وكذلك رفعهما عند رؤية الهلال ونحو ذلك.
والحاصل أن المواضع التي وجدت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع فيها يديه لا يجوز الرفع فيها؛ لأن فعله سنة، وتركه سنة، وهو صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة فيما يأتي ويذر (2)، والواجب التقيد بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وترك ما سوى ذلك.
_______________________
(1) مجموع فتاواه (11/ 184).
(2) انظر: مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (11/ 178- 183).
التصنيف | الأخطاء المتعلقة برفع اليدين |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |