وفي رواية: "عَادَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ مِنْ مَرَضٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى. . . قَالَ سَعْدٌ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُخَلَّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: "إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً وَلَعَلَّكَ تُخَلَّفُ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لِأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلَا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ" (1).
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصِنِي قَالَ: لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لَا تَغْضَبْ"
الغضب من الخصال الذميمة والخلال المشينة التي نهى عنها الإسلام وحذر منها أشد التحذير، وهو غليان دم القلب وازدياد خفقانه، طلباً لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلباً للانتقام ممن يحصل منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ عن ذلك كثير من الأفعال المحرمة كالقتل والضرب وأنواع الظلم والعدوان، وكثير من الأقوال المحرمة كالقذف والسب والفحش والبذاء، وكالإيمان التي لا يجوز التزامها شرعاً، وكتطليق الزوجة، ونحو ذلك من الأمور التي لا تُعقب إلا الندم مما يدل أوضح دلالة على أن الغضب جماع الشر ومفتاح أبوابه.
روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصِنِي قَالَ: لَا تَغْضَبْ فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لَا تَغْضَبْ" (1).
فهذا الرجل قد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه بوصية وجيزة جامعة لخصال الخير ليحفظها ويعمل بها، فوصاه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يغضب، وردد السؤال مراراً والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبه بقوله: "لا تغضب"، وفي هذا دلالة على أن الغضب جماع الشر ومفتاحه، وأن التحرز منه جماع الخير.
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 6116).وفي المسند للإمام أحمد من حديث الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي قَالَ: "لَا تَغْضَبْ" قَالَ قَالَ الرَّجُلُ فَفَكَّرْتُ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ فَإِذَا الْغَضَبُ يَجْمَعُ الشَّرَّ كُلَّهُ" (1).
وقد جاء عن السلف -رحمهم الله - نقول عديدة في التحذير من الغضب وبيان نتائجه وعواقبه الوخيمة، يقول جعفر بن محمد رحمه الله: "الغضب مفتاح كل شر".
وقيل لعبد الله بن المبارك رحمه الله: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، فقال: "ترك الغضب".
وقال عمر بن العزيز رحمه الله: "قد أفلح من عصم من الهوى والغضب والطمع".وكان يقال: "أول الغضب جنون وآخره ندم"، ويقال: "عدو العقل الغضب"، ويقال أيضاً: "كل العطب في الغضب".
ولما كان الغصب بهذا القدر من الخطورة كان متعيناً على كل مسلم أن يحذر منه، وأن يجاهد نفسه على البعد عنه؛ ليسلم من عواقبه ونتائجه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: "لا تغضب" يتضمن أمرين عظيمين للسلامة من الغضب ونتائجه.
أحدهما: الأمر بفعل الأسباب وتمرين النفس على حُسن الحلق والحلم والصبر واحتمال أذى الناس القولي والفعلي، فإذا وفق العبد لذلك فإنه إذا ورد عليه وارد الغضب احتمله بحسن خلقه، وتلقاه بحلمه وصبره.
ومن القواعد المقررة أن الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به، والنهي عن الشيء أمر بضده، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغضب يتضمن الأمر بالصبر والحلم وحسن الخلق.
_______________________
(1) المسند (5/ 573)، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح الترغيب (رقم: 2746).
ثانياً: أن أمره صلى الله عليه وسلم بعدم الغضب فيه أمر بعدم تنفيذ الغضب؛ لأن الغضب غالباً لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه، فعليه أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال المحرمة التي يجر الغضب إليها، فمتى منع نفسه من آثار الغضب الضارة، فكأنه في الحقيقة لم يغضب، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (1)، وفي الحديث: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" (2).
ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوجه ويأمر من غضب بفعل الأسباب التي تدفع الغضب وتسكنه، ويأمر بالتعوذ بالله من الشيطان الذي يحرك الغضب في القلوب، ويثير الفتن ويدعو إلى الشر والفساد.
روى البخاري ومسلم عن سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ قَالَ: "اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَبًا قَدْ احْمَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَقَالُوا لِلرَّجُلِ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ" (3).
وفي الحديث دلالة على أن الغضب من نزغ الشيطان، وأن من حصل له الغضب ينبغي له أن يستعيذ بالله منه، كما يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ۚ إِنَّهُۥ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (4).
______________________
(1) سورة: الشورى، الآية (37).
(2) صحيح البخاري (رقم: 6114)، وصحيح مسلم (رقم: 2609).
(3) صحيح البخاري (رقم: 6115)، وصحيح مسلم (رقم: 2610).
(4) سورة: الأعراف، الآية (200).
ثم إن الشيطان - أعاذنا الله منه - يتمكن من الإنسان حال غضبه، فيدفعه إلى ارتكاب الآثام، ويأزه إلى السب والأذى والإجرام، فإذا استعاذ المسلم بالله حفظ منه ووقي من شره.ومما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الغضبان إلى فعله التباعد عن كل ما يستثيره ويقربه من الانتقام، سواء بالقول أم الفعل.
فأما القول فقد ورى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ"، قالها ثلاثاً (1).
وذلك أن الغضبان إن تكلم حال غضبه فإن الغالب على كلامه التعدي والإساءة، فمن الخير له أن يكف عن الكلام حال الغضب حتى يسكن، فإذا سكن اتزن كلامه وحسن حديثه، وكان كلامه في حال الغضب قريباً أو مساوياً لكلامه حال الرضا ليس فيه ظلم ولا عدوان.
ومن الدعوات النبوية المباركة قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: "وأسألك كلمة الحق فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا" (2)، وهذا عزيز ان لا يقول الإنسان إلا الحق سواء غضب أو رضى.
وأما الفعل فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث أَبِي ذَرٍّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ" (3).
______________________
(1) المسند (1/ 239).
(2) جزء من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه، وقد تقدم.
(3) سنن أبي داود (رقم: 4782)، والمسند (5/ 152)، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح الجامع (رقم: 694).
وذلك أن الغضبان إن بقي قائماً حال غضبه فإنه سيكون قريباً ممن أغضبه، متهيئاً للانتقام منه، فربما ضربه أو لطمه أو اعتدى عليه، فإذا جلس تباعد منه، وإذا اضطجع كان أبعد وأبعد.وهذا فيه دلالة على أن الغضبان ينبغي عليه أن يحرص على أن يملك نفسه حال الغصب في الأقوال والأفعال، فلا يباشر شيئاً منها حتى يسكن ويطمئن؛ ليكون قوله حقاً وفعله عدلاً، لا زلل فيه ولا شطط.
والله وحده المسؤول أن يوفقنا وإياكم إلى سديد القول وصالح العمل وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل.
التصنيف | ما يُقال عند الغضب |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |