وأما التثاؤب: فلم تثبت فيه الاستعاذة ولا غيرها، وإنما الذي ثبت: الأمر برده.
قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِىٓ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1)
تقدم معنا ذكر قول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِىٓ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1)، وبيان ما فيه من دلالة على إجابة الله لمن دعاه، وتقدم معنا أيضاً استشكال بعض أهل العلم لذلك، بأن بعض الداعين قد يدعو ويسأل الله أموراً قد لا يرى أنه تحقق له شيء منها أو تحقق له بعضها دون بعض، وقد أجاب عن ذلك أهل العلم بأجوبة عديدة تقدم ثلاثة منها، إلا أن أحسن ما قبل في ذلك هو أن الدعاء سبب مقتض لنيل المطلوب، ونيل المطلوب له شروط وموانع، فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه تحقق المطلوب وإلا فلا، كما هو الشأن في جميع الأعمال الصالحة والأذكار النافعة، لا تقبل إلا إذا استوفى المسلم شروطها وابتعد عن موانع قبولها، أما إذا وجد المانع وانتفى الشرط فإن العمل لا يقبل.
والشأن في الدعاء كذلك، فإن الدعاء في نفسه نافع مفيد، وهو مفتاح لكل خير في الدنيا والآخرة، لكنه يستدعي قوة همة الداعي وصحة عزيمته وحسن قصده وبعده عن الأمور التي تمنع من القبول.
_______________________
(1) سورة غافر، الآية: (60).قال ابن القيم رحمه الله: "فإنه - إي الدعاء - من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف عنه أثره؛ إما لضعف في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جداً، فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً، وإما لحصول المانع من الإجابة من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو وغلبتها عليها، كما في مستدرك الحاكم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ" (1)، فهذا دواء نافع مزيل للداء، ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوته، وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها كما في صحيح مسلم من حديث
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (2)، وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (3)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" (4) (5).
فأشار صلوات الله وسلامه عليه في هذا الحديث إلى آداب الدعاء وإلى الأسباب التي تقتضي إجابته وإلى ما يمنع من إجابته، والحديث فيه دلالة عظيمة وإشارات نافعة في هذا الباب سيأتي بيانها لاحقاً إن شاء الله.
_______________________
(1) المستدرك (1/ 493)، وهو في سنن الترمذي (رقم: 3479)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 245).
(2) سورة المؤمنون، الآية: (51).
(3) سورة البقرة، الآية: (172).
(4) صحيح مسلم (رقم: 1015).
(5) الجواب الكافي (ص: 9- 10).
ومما يدل على أن الدعاء متوقف في قبوله على وجود شروط وانتفاء موانع، ما ثبت في الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي" (1)
وثبت في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
"لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ" (2)
وفي المسند بإسناد جيد من حديث عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لَا يَزَالُ الْعَبْدُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ يَسْتَعْجِلُ قَالَ يَقُولُ دَعَوْتُ رَبِّي فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي" (3)
فاستعجال الإجابة آفة من الآفات تمنع ترتب أثر الدعاء عليه، حيث إن المستعجل عندما يستبطئ الإجابة يستحسر ويدع الدعاء، ويكون بذلك كما يقول ابن القيم رحمه الله: "بمنزلة من بذر بذراً، أو غرس غرساً فجعل يتعهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله" (4).
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 6340)، وصحيح مسلم (رقم: 2735).
(2) صحيح مسلم (رقم: 2735).
(3) المسند (3/ 193، 210).
(4) الجواب الكافي (ص: 13).
كما أن في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: "مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ" إشارة أخرى إلى مانع من موانع قبول الدعاء، وهو أن لا يدعو الإنسان بإثم أو معصية أو سوء يلحقه أو يلحق غيره، وهذا من حكمة الله تبارك وتعالى ولطفه بخلقه، ولو أنه سبحانه أجاب العبد في كل ما يريد ويطلب لأدى ذلك إلى وقوع مفاسد عديدة له أو لغيره، كما قال سبحانه:{وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُم بِٱلْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ۖ} (1)
وقال تعالى: {وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ} (2)
وقال تعالى: {وَيَدْعُ ٱلْإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلْخَيْرِ ۖ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا} (3)
وبهذا يعلم أن النصوص قد دلت على أن إجابة الدعاء موقوفة على تحقق شروط وانتفاء موانع، وقد أشرت إلى بعضها، وسيأتي ذكر جملة منها إن شاء الله.
_______________________
(1) سورة يونس، الآية: (11).
(2) سورة المؤمنون، الآية: (71).
(3) سورة الإسراء، الآية: (11).
التصنيف | إجابة الدعاء موقوفةٌ على توفر شروط وانتفاء موانع |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |