في صحيح مسلم من حديث عبد الله ابْنَ عُمَرَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ"
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا طَيِّبًا وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا
إن من الدعوات العظيمة النافعة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يلازم المحافظة عليها كل صباح ما ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه من حديث أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا طَيِّبًا وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا" (1).
ومن يتأمل هذا الدعاء العظيم يجد أن الإتيان به في هذا الوقت بعد صلاة الصبح في غاية المناسبة؛ لأن الصبح هو بداية اليوم ومفتتحه، والمسلم ليس له مطمع في يومه إلا تحصيل هذه الأهداف العظيمة والمقاصد الجليلة المذكورة في هذا الحديث، وهي العلم النافع، والرزق الطيب، والعمل المتقبل، وكأنه في افتتاحه ليومه بذكر هذه الأمور الثلاثة دون غيرها يحدد أهدافه ومقاصده في يومه، ولا ريب أن هذا أجمع لقلب الإنسان وأضبط لسيره ومسلكه، بخلاف من يصبح دون أن يستشعر أهدافه وغاياته ومقاصده التي يعزم على القيام بها في يومه، ونجد المعتنين بالتربية والآداب يوصون بتحديد الأهداف في كل عمل يقوم به الإنسان، وفي كل سبيل يسلكه؛ ليكون ذلك أدعى لتحقيق أهدافه، وأسلم من التشتت والارتباك، وأضبط له في مساره وعمله، وما من شك أن من يسير وفق أهداف ودون تعيين مقاصد.
_______________________
(1) مسند أحمد (6/ 322)، وسنن ابن ماجه (رقم: 925)، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح ابن ماجه (رقم: 753).
والمسلم ليس له في يومه بأجمعه، بل ليس في أيامه كلها إلا الطمع في تحصيل هذه الأهداف الثلاثة وتكميلها، ونيلها من أقرب وجه وأحسن طريق.
وعلى هذا فما أجمل أن يُفتتح اليوم بذكر هذه الأمور الثلاثة التي تحدد أهداف المسلم في يومه وتعين غاياته ومقاصده.
وليس المسلم في إتيانه بهذا الدعاء في مفتتح يومه يقصد تحديد أهدافه فحسب، بل هو يتضرع إلى ربه، ويلجأ إلى سيده ومولاه، بأن يمن عليه بتحصيل هذه المقاصد العظيمة والأهداف النبيلة؛ إذ لا حول له ولا قوة، ولا قدرة عنده على جلب نفع أو دفع ضر إلا بإذن ربه سبحانه، فهو إليه يلجأ، وبه يستعين، وعليه يعتمد ويتوكل.
فقول المسلم في كل صباح "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا طَيِّبًا وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا" وهو استعانة منه في صباحه وأول يومه بربه سبحانه بان ييسر له العسير، ويذلل له الصعاب، ويعينه على تحقيق غاياته المباركة الحميدة.
وتأمل كيف بدأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء بسؤال الله العلم النافع، قبل سؤاله الرزق الطيب والعمل المتقبل، وفي هذا إشارة إلى أن العلم النافع مقدم وبه يبدأ، كما قال الله تعالى: {فَٱعْلَمْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنۢبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ} (1)، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، وفي البدء بالعلم النافع حكمة ظاهرة لا تخفى على المتأمل، ألا وهي ان العلم النافع به يستطيع المرء أن يميز بين العمل الصالح وغير الصالح، ويستطيع أن يميز بين الرزق الطيب وغير الطيب، ومن لم يكن على علم فإن الأمور قد تختلط عليه فيقوم بالعمل يحسبه صالحاً نافعاً، وهو ليس كذلك، والله تعالى يقول:
_______________________
(1) سورة: محمد، الآية (19).
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلْأَخْسَرِينَ أَعْمَٰلًا ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (1)، وقد يكتسب رزقاً ومالاً ويظنه طيباً مفيداً، وهو في حقيقته خبيث ضار، وليس للإنسان سبيل إلى التمييز بين النافع والضار والطيب والخبيث إلا بالعلم النافع، ولهذا تكاثرت النصوص في الكتاب والسنة وتضافرت الأدلة في الحث على طلب العلم والترغيب في تحصيله وبيان فضل من سلك سبيله {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا ٱلْأَلْبَٰبِ} (2).
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "عِلْمًا نَافِعًا" فيه دلالة على ان العلم نوعان؛ علم نافع وعلم ليس بنافع، وأعظم العلم انافع ما ينال به المسلم القرب من ربه والمعرفة بدينه والبصيرة بسبيل الحق الذي ينبغي أن يسير عليه، وتامل في هذا قول الله تعالى: {قَدْ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِۦ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ} (3)، فحري بالمسلم في يومه أن يعتني بالقرآن الكريم وبمذاكرته ومدارسته، وأن يعتني بسنة النبي صلى الله عليه وسلم المبينة له والشارحة لدلالته ومقاصده.
وقوله في الحديث "وَرِزْقًا طَيِّبًا" فيه إشارة إلى أن الرزق نوعان طيب وخبيث، والله تعالى طيب لا يقبل إلى طيباً، وقد أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {َٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعْمَلُوا صَٰلِحًا ۖ } (4)،
_______________________
(1) سورة: الكهف، الآيتان (103- 104).
(2) سورة: الزمر، الآية (9).
(3) سورة: المائدة، الآيتان (15- 16).
(4) سورة: المؤمنون، الآية (51).
وقال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ} (1)، وقد بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتحليل الطيب وتحريم الخبيث كما قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰٓئِثَ} (2)، فحري بالمسلم في يومه أن يتحرى المال الطيب الحلال، والرزق السليم النافع، ويحذر أشد الحذر من الأموال الخبيثة والمكاسب المحرمة.
وقوله في الحديث: "وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا" وفي رواية: "وعملاً صالحاً" فيه إشارة إلى أنه ليس كل عمل يتقرب العبد به إلى الله يكون متقبلاً، بل المتفبل من العمل هو الصالح فقط، والصالح هو ما كان لله وحده وعلى هدي وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله تعالى: {ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ} (3)، قال الفضيل بن عياض في معنى الآية: "أي: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي وما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً ولم يقبل، وإذاك كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة" (4).
فهذا دعاء عظيم النفع كبير الفائدة، يحسن بالمسلم أن يحافظ عليه كل صباح تأسياً بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم يتبع الدعاء بالعمل، فيجمع بين الدعاء وبذل الأسباب، لينال هذه الخيرات العظيمة والأفضال الكريمة، والله وحده الموفق، والمعين على كل خير.
_______________________
(1) سورة: البقرة، الآية (172).
(2) سورة: الأعراف، الآية (157).
(3) سورة: الملك، الآية (2).
(4) رواه ابن أبي الدنيا في كتابه الإخلاص والنية (ص: 50-51)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 95).
التصنيف | أذكار الصباح |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |