التصنيفات

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ - مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ -: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ

تقدم الحديث عن التوبة إلى الله عز وجل وأهميتها، وشدة حاجة العبد إليها ليتحقق فلاحه، وليظفر بسعادة الدنيا والآخرة، وحقيقة التوبة الرجوع إلى الله بالتزام ما يحب وترك ما يكره، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب، فهي تتضمن أمرين: ترك للذنوب وندم على فعلها وعزم على عدم العودة إليها، وإقبال على الطاعة، والتزام بها، وعزم على الاستقامة عليها، ولهذا علق الله سبحانه الفلاح المطلق على فعل ذلك بقوله: {وَتُوبُوٓا إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1)، فكل تائب مفلح، ولا يكون مفلحاً إلا إذا أتى بالأمرين معاً، فإن أخل بذلك بأن ارتكب المحظور أو ترك المأمور نقص حظه ونصيبه من الفلاح بحسب ذلك، وكان بتركه للمأمور وفعله للمحظور ظالماً لنفسه بحسب ذلك، والله يقول: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ} (2)، فتارك المأمور ظالم لنفسه كما أن فاعل المحظزر ظالم لها، وزوال اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للأمرين.

ولهذا فإن التوبة جامعة لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان، والدين كله داخل في مسماها، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (3)، بل لقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ - مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ -: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ" 
_______________________
(1) سورة النور، الآية: (31).
(2) سورة الحجرات، الآية: (11).
(3) انظر: مدارج السالكين لابن القيم (1/ 305- 307).

رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (1).

ولا ينبغي للمسلم أن يؤخر التوبة ويؤجلها ويسوف فيها، بل الواجب المبادرة والمسارعة، فإن المرء لا يدري ما يعرض له في هذه الحياة، ولا يزال باب التوبة مفتوحاً للعبد ما لم يغوغر، قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ ٱلْـَٰٔنَ} (2)، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" (3)، أي: ما لم تبلغ روحه حلقومه.

وكذلك لا يقبل الله توبة العبد إذا طلعت الشمس من مغربها، ففي المسند للإمام أحمد وسنن أبي داود عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" (4).
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 2747).
(2) سورة النساء، الآية: (18).
(3) المسند (2/ 132، 153).
(4) المسند (4/ 99)، وسنن أبي داود (رقم: 2479).

وروى الطبراني عن صفوان بن عسال رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها"، حسنه الألباني رحمه الله (1).

ولهذا فإن الواجب على الإنسان أن يبادر إلى التوبة قبل فوات أوانها، وقبل أن يُحال بينه وبينها، ولا يجوز له تأخيرها في أي حال من الأحوال، بل إن تأخيرها يعد معصية ينبغي أن يتاب منها.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "إن المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور، ولا يجوز تأخيرها، فمتى أخرها عصى الله بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى، وهي توبته من تأخير التوبة، وقل أن تخطر هذه ببال التائب، بل عنده أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر، وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة، ولا يُنجي من هذا إلا توبة عامة، مما يعلم من ذنوبه ومما لا يعلم، فإن ما لا يعلمه العبد من ذنوبه أكثر مما يعلمه، ولا ينفعه في عدم المؤاخذة بها جهله إذا كان متمكناً من العلم، فإنه عاص بترك العلم والعمل، فالمعصية في حقه أشد، وفي المسند للإمام أحمد، والأدب المفرد للبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل، فقال أبو بكر: فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟ قال: أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم" (2)، فهذا طلب الاستغفار مما يعلمه الله أنه ذنب، ولا يعلمه العبد.
_______________________
(1) المعجم الكبير(8/ 65) (رقم: 7383)، وصحيح الجامع (رقم: 2177).
(2) المسند (4/ 403)، والأدب المفرد (716)، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الأدب (رقم: 551).

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ إلهي لَا إِلَه إِلَّا أَنْت" (1).

وفي الحديث الآخر: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ وَعَمدَهُ، وَسِرَّه عَلَانِيَتَهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ" (2).

فهذا التعميم وهذا الشمول؛ لتأتي التوبة على ما علمه العبد من ذنوبه وما لم يعلمه" (3). اهـ.

ولا ريب أن هذا من النصح في التوبة المأمور به في قول الله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوٓا إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّـَٔاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنْهَٰرُ} (4)، وقد بين ابن القيم رحمه الله أن النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:
الأول: تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها، بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته.
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 2719).
(2) صحيح مسلم (رقم: 483)، وليس فيه : "خطأ وعمده".
(3) مدارج السالكين (1/ 272 - 273).
(4) سورة التحريم، الآية: (8).

والثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها، بحيث لا يبقى عنده تردد ولا تلوم ولا انتظار، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادراً بها.

الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها، ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته والرغبة فيما لديه والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته، ولحفظ حاله، أو لحفظ قوته وماله، أو استدعاء حمد الناس، أو الهرب من ذمهم، أو لئلاً يتسلط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل.

فالأول يتعلق بما يتوب منه، والثالث يتعلق بمن يتوب إليه، والأوسط يتعلق بذات التائب ونفسه (1)، وبهذه الأمور الثلاثة يكون العبد قد أتى بأكمل ما يكون من التوبة، والتوفيق بيد الله وحده، فنسأله أن يمن علينا بالتوبة النصوح، وأن يهدينا سواء السبيل.
_______________________
(1) انظر: مدارج السالكين (1/ 310).

التصنيف المبادرة إلى التوبة والنصح فيها
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0