التصنيفات

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ"، وزاد مسلم: "ثم أدناك أدناك" (1).

سبق أن مرَّ معنا بيان فضل الدعاء للمسلمين بالخير والرحمة والمغفرة، وما يترتب على ذلك من أجور عظيمة، وخيرات عميمة، وإذا كان الدعاء مطلوباً من المسلم لعموم المسلمين فإنه متأكد ومطلوب بشكل أخص لقرابة الإنسان؛ إذ الأقربون أولى بالمعروف وأحق بالحق بالإحسان، ولا سيما الولدان.

ففي الصحيحين من حديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أَبُوكَ"، وزاد مسلم: "ثم أدناك أدناك" (1).

وروى الترمذي والبخاري في الأدب المفرد بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ قَالَ قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ أُمَّكَ قَالَ قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ أُمَّكَ قَالَ قُلْتُ ثُمَّ مَنْ قَالَ ثُمَّ أَبَاكَ ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ" (2).
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 5971)، وصحيح مسلم (رقم: 2548).
(2) سنن الترمذي (رقم: 1897)، والأدب المفرد (رقم: 3)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم: 3).

ومن أعظم البر والدعاء، قال الله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓا إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} (1)، فأمر جل وعلا بالإحسان إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي؛ لأنهما سبب وجود العبد، ولهما من المحبة والحقوق والإحسان والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب التقديم في البر، وخص بالذكر من ذلك الدعاء لهما بالرحمة أحياء وأمواتاً، جزاء على إحسانهما.

والدعاء للوالدين بالرحمة خاص فيما إذا كانا مسلمين، أما المشرك فلا يدعى له بالرحمة والمغفرة، قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله عز وجل: {وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا}: "فنسختها (2) الآية التي في براءة: {مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوٓا أُولِى قُرْبَىٰ مِنۢ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَٰبُ ٱلْجَحِيمِ} (3)" (4).

وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي" (5).

لكن لا بأس، بل يحسن أن يدعو لهما بالهداية والتوفيق لقبول الحق، كما في الصحيح أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: 
_______________________
(1) سورة الإسراء، الآيات: (23- 24).
(2) أي: قيدتها.
(3) سورة التوبة، الآية: (113).
(4) الأدب المفرد (رقم: 23)، وتفسير الطبري (8/ 63)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم: 3).
(5) صحيح مسلم (رقم: 671).

"اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ" (1)، وروى مسلم في صحيحه عن يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: "كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ فَتَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ فَقَالَتْ مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتْ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْشِرْ قَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمْ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي" (2).
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 2937).
(2) صحيح مسلم (رقم: 2491).

فهذه القصة العظيمة الرائعة دالة على جواز الدعاء للوالدين إذا كانا مشركين بالهداية، وأهمية ذلك وعظم فائدته، وينبغي له أن يجمع لهما بين الدعاء والدعوة، كما فعل أبو هريرة رضي الله عنه مع أمه رضي الله عنها، فقد كان يكثر كم دعوتها إلى الإسلام، والدعاء لها بالهداية والتوفيق، ثم إنه رضي الله عنه كان يكثر من الدعاء لها - بعد هدايتها - بالرحمة والمغفرة.

روى البخاري في الأدب المفرد عن أبي مرة مولى أم هانيء بنت أبي طالب: أنه ركب مع أبي هريرة إلى أرضه بالعقيق، فإذا دخل أرضه صاح بأعلى صوته: عليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أمتاه، تقول: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، يقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: يا بني، وأنت جزاك الله خيراً ورضي عنك كما بررتني كبيراً" (1).

وروى أيضاً عن محمد بن سيرين قال: "كنا عند أبي هريرة ليلة فقال: اللهم اغفر لأبي هريرة ولأمي، ولمن استغفر لهما، قال محمد بن سيرين فنحن نستغفر لهما حتى ندخل في دعوة أبي هريرة" (2).

ودعا الولد لوالديه ينفعهما بعد موتهما حيث ينقطع عملهما في هذه الحياة، فقد ثبت في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ" (3). 
_______________________
(1) الأدب المفرد (رقم: 14)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم: 11).
(2) الأدب المفرد (رقم: 37)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم: 28).
(3) صحيح مسلم (رقم: 1631).

وروى البخاري في الأدب المفرد بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ترفع للميت بعد موته درجته، فيقول: أي رب، أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك استغفر لك" (1).

وإذا كان الدعاء للوالدين بالرحمة والمغفرة براً وإحساناً وحقاً ينبغي على الابن أن يعتني به، فإن من أعظم الإثم ومن كبائر الذنوب أن يسب - والعياذ بالله - الولد والديه، سواء ابتداء - وهو أشد - أو تسبباً، ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ" (2).

وفي الأدب المفرد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "من الكبائر عند الله أن يستسب الرجل لوالده" (3).

وثبت في صحيح مسلم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ" (4).

ومثل هذا لا يكون إلا من ذوي النفوس الدنيئة والأخلاق الرديئة، نسأل الله الحفظ والعافية، ونسأله سبحانه أن يغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات إنه غفور رحيم.
_______________________
(1) الأدب المفرد (رقم: 36)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم: 27).
(2) صحيح البخاري (رقم: 5973)، وصحيح مسلم (رقم: 90).
(3) الأدب المفرد (رقم: 28)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب المفرد (رقم: 22).
(4) صحيح مسلم (رقم: 1978).

التصنيف الدعاء للوالدين ولذوي القربى
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0