التصنيفات

أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة {ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ}، فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة" (1). اهـ

إن من ضوابط الدعاء المهمة وآدابه العظيمة أن يقدم المسلم بين يدي دعائه الثناء على ربه بما هو أهله من نعوت الجلال، وصفات العظمة والكمال، وذكر جوده وفضله وكرمه وعظيم إنعامه، وذلك أنه أبلغُ ما يكون في حال السائل والطالب ثناؤه على ربه، وحمده له، وتمجيده، وذكر نعمه وآلائه، وجعل ذلك كله بين يدي مسألته وسيلة للقبول ومفتاحاً للإجابة.

ومن يتأمل الأدعية الواردة في الكتاب والسنة يجد كثيراً منها مبدوءاً بالثناء على الله وعد نعمه وآلائه، والاعتراف بفضله وجوده وعطائه، ومن الأمثلة على ذلك الدعاء العظيم الذي اشتملت عليه سورة الفاتحة التي هي أعظم سور القرآن الكريم وأجلها لاشتمالها على أجل المطالب العالية، وأعلى المقاصد الجليلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

"ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة {ٱهْدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ}، فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة" (1). اهـ
_______________________
(1) مجموع الفتاوى (8/ 215- 216).

فهذا الدعاء العظيم مبدوء بالثناء على الله وحمده وتمجيده، مما هو سبب لقبوله، ومفتاح لإجابته، يوضح ذلك ويبينه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي شَطْرَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَءُوا يَقُولُ الْعَبْدُ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَمِدَنِي عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَيَقُولُ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فَيَقُولُ أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ يَقُولُ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فَيَقُولُ اللَّهُ مَجَّدَنِي عَبْدِي فَهَذَا لِي وَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ يَقُولُ الْعَبْدُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يَعْنِي فَهَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ وَآخِرُ السُّورَةِ لِعَبْدِي يَقُولُ الْعَبْدُ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فَهَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ" (1). فعلم سبحانه عباده في هذه السورة العظيمة كيف يدعونه ويسألونه ويتوسلون إليه، قال ابن القيم رحمه الله: "ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب ونيله أشرف المواهب، علم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم، توسل إليه بأسمائه وصفاته وتوسل إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء. . . إلى أن قال رحمه الله الله: وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين، وهما التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده، والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده، ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين، فالداعي به حقيق بالإجابة".
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 395).

ونظير هذا الدعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل، رواه البخاري في صحيحه من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ" (1). اهـ. فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له ثم سأله المغفرة: (2). اهـ.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: "وفيه استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب اقتداءً به" (3).

ومن الأمثلة على ذلك دعاء يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ ءَاتَيْتَنِى مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ ٱلْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ أَنتَ وَلِىِّۦ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْأَخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّٰلِحِينَ} (4)، ودعاء أيوب عليه السلام، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّى مَسَّنِىَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ  فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ فَكَشَفْنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرٍّۢ ۖ وَءَاتَيْنَٰهُ أَهْلَهُۥ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَٰبِدِينَ} (5)، ودعاء أولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 1120).
(2) مدارج السالكين (1/ 23 -24).
(3) فتح الباري (3/ 5).
(4) سورة يوسف، الآية: (101).
(5) سورة الأنبياء، الآيات: (83- 84).

{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَٰطِلًا سُبْحَٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} (1)، ودعاء {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَٱتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ} (2)، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، يطول عدها، فينبغي على المسلم أن يحافظ على هذا الأدب الرفيع عند سؤاله سبحانه بأن يثني عليه ويحمده ويمجده، ويعترف بفضله وإنعامه، ثم يسأله بعد ذلك ما يشاء من خيري الدنيا والآخرة.

كما ينبغي للمسلم أيضاً بين يدي دعائه أن يصلي على صفي الله وخليله وعبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاء الحثُ على ذلك في أحاديث عديدة منها: فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: "سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَجِلَ هَذَا ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ لْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ" (3). ولهذا ثلاث مراتب:

أحدها: أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء، وبعد حمد الله تعالى.
والمرتبة الثانية: أن يصلي عليه في أول الدعاء وأوسطه وآخره.
والمرتبة الثالثة: أن يصلي عليه في أوله وآخره ويجعل حاجته متوسطة بينهما. والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء مثل المفتاح، قال ابن القيم رحمه الله: "فمفتاح الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما أن مفتاح الصلاة الطهور".
_______________________
(1) سورة آل عمران، الآية: (191).
(2) سورة غافر، الآية: (7).
(3) المسند (6/ 18)، وسنن أبي داود (رقم: 1481)، وسنن الترمذي (رقم: 3477)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 648).

ثم نقل عن أحمد بن أبي الحوراء قال: سمعت أبا سليمان الداراني يقول "من أراد أن يسأل الله حاجته فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وليسأل حاجته وليختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مقبولة، والله أكرم أن يرد ما بينهما" (1).
_______________________
(1) جلاء الأفهام (ص: 260- 262).

التصنيف جملة من آداب الدعاء
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0