التصنيفات

قال تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّٰتٍۢ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَٰرًا} (1)

إن من آداب الدعاء المهمة وأسباب قبوله العظيمة أن يسبق الدعاء توبة من العبد إلى الله عز وجل من جميع ذنوبه وخطاياه، فيقر بذنبه، ويعترف بتقصيره، ويندم على تفريطه، فإن تراكم الذنوب واجتماع الخطايا سبب من أسباب عدم الإجابة، كما قال بعض السلف: "لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي"، وقد نظم بعضهم هذا المعنى في بيتين من الشعر فقال:
نحن ندعو الإله في كل كرب ثم ننساه عند كشف الكروب
كيـف نرجــو إجــابة لدعــاء قــد سـددنا طـريقها بالذنوب

وقد سبق أن مَّر معنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ، فاستبعد النبي صلى الله عليه وسلم إجابة دعاء من كانت هذه حاله "وقد يكون ارتكاب المحرمات الفعلية مانعاً من الإجابة أيضاً، وكذلك ترك الواجبات" (1).
_______________________
(1) جامع العلوم والحكم (1/ 275).

ولهذا فإن من أراد أن يجيب الله دعاءه ويحقق رجاءه، فعليه أن يتوب إلى الله توبة نصوحاً من ذنوبه وخطاياه، والله جل وعلا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا حاجة يسألها أن يعطيها، وقد كان أنبياء الله ورسله يرغبون أممهم ويحثونهم على التوبة والاستغفار، ويبينون لهم أن ذلك سبب من أسباب إجابة الدعاء ونزول الأمطار وكثرة الخير وانتشار البركة في الأموال والأولاد، قال تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّٰتٍۢ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَٰرًا} (1)، وقال عن هود عليه السلام أنه قال لقومه: {وَيَٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓا إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (2)، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُوا وَٱتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ} (3)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰٓ أُمَمٍۢ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَٰهُم بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4)، وقال تعالى: {وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا} (5).

فالتوبة إلى الله واستغفاره سبب نزول الخيرات وتوالي البركات وإجابة الدعوات، يُروى أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: "لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ:
_______________________
(1) سورة نوح، الآيات: (10- 12).
(2) سورة هود،الآية: (52).
(3) سورة الأعراف، الآية: (96).
(4) سورة الأنعام، الآيتان: (42- 43).
(5) سورة هود، الآية: (3).

{فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا}" (1).

وقال ابن صبيح: "شكا رجل إلى الحسن البصري رحمه الله الجدوبة، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، قال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح {ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّٰتٍۢ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَٰرًا} " (2).

ومعنى الآية: "أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين، أي أعطاكم الأموال والأولاد وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها" (3)، إلى غير ذلك من صنوف الخيرات وأنواع العطايا والهبات، وسيأتي الكلام على الاستغفار، فضله وأهميته وفوائده في الدنيا والآخرة.
_______________________
(1) ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري (11/ 98).
(2) رواه عبد الرزاق في مصنفه (3/ 87)، والطبراني في الدعاء (رقم: 964).
(3) تفسير ابن كثير (8/ 260).

ومن آداب الدعاء المهمة أن يدعو المسلم ربه وهو في حال تضرع وخشوع وخضوع وتذلل، بل إن ذلك "هو روح الدعاء ولبه ومقصوده، فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه وذلت جوارحه وخشع صوته" (1)، قال الله تبارك وتعالى: {ٱدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ}، فأمر سبحانه بدعائه بتضرع وخفية، وحذر في السياق من الاعتداء، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع، بل دعاء هذا كالمستغني المدلي على ربه، وهذا من أعظم الاعتداء لمنافاته لدعاء الذليل، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد" (2).

وقد سبق الكلام على الاعتداء في الدعاء وأنواعه، وأن كل تجاوز لما حددته الشريعة في ذلك فهو اعتداء.

 ومن آداب الدعاء الإلحاح على الله وكثرة سؤاله وعدم السآمة والملل "والله يحب الملحين في الدعاء، ولهذا تجد كثيراً من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم فيها من بسط الألفاظ وذكر كل معنى بصريح لفظه، دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه ما يشهد لذلك، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه: "اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ" (3)، ومعلوم أنه لو قيل: اغفر لي كل ما صنعت كان أوجز، ولكن لفظ الحديث في مقام الدعاء والتضرع وإظهار العبودية والافتقار باستحضار الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلاً أحسن وأبلع من الإيجاز والاختصار، 
_______________________
(1) مجموع الفتاوى (15/ 16).
(2) الفتاوى (15/ 23).
(3) صحيح مسلم (رقم: 771).

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَسِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ" (1)، وفي الحديث: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَايَايَ وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي" (2)، وهذا كثير في الأدعية المأثورة، فإن الدعاء عبودية لله وافتقار إليه وتذلل بين يديه، فكلما كثره العبد وطوله وأعاده وأبداه ونوع جمله كان ذلك أبلع في عبوديته وإظهار فقره وتذلله وحاجته، وكان ذلك أقرب له من ربه وأعظم لثوابه، وهذا بخلاف المخلوق، فإنك كلما كثرت سؤاله وكررت حوائجك إليه أبرمته وثقلت عليه وهنت عليه، وكلما تركت سؤاله كان أعظم عنده وأحب إليه، والله سبحانه كلما سألته كنت أقرب إليه وأحب إليه، وكلما ألححت عليه في الدعاء أحبك، ومن لم يسأل الله يغضب عليه.

فالله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب" (3).

وقد روي في سنن أبي داود وغيره من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْعُوَ ثَلَاثًا وَيَسْتَغْفِرَ ثَلَاثًا" (4)، وقال الأوزاعي رحمه الله: "كان يقال: أفضل الدعاء الإلحاح على الله والتضرع" (5).
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 483).
(2) صحيح مسلم (رقم: 2719).
(3) جلاء الأفهام لابن القيم (ص: 203).
(4) سنن أبي داود (رقم: 1524)، المسند (1/ 394، 397)، وأورده العلامة الألباني رحمه الله في ضعيف الجامع (رقم: 4984).
(5) رواه البيهقي في شعب الإيمان (2/ 38).

التصنيف جملة من آداب الدعاء
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0