التصنيفات

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي" (1)، وفي لفظ عند مسلم: "لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ قَالَ يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ" (2).

إن من آداب الدعاء العظيمة ألا يستعجل الدعاء ويستبطئ الإجابة، فيستحسر ويمل ويترك الدعاء، ويقع في اليأس من روح الله والقنوط من رحمته، وقد رود في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن استعجال الدعاء وأن ذلك من موانع إجابته وأسباب عدم قبوله، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي" (1)، وفي لفظ عند مسلم: "لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ قَالَ يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ" (2).

قال ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الحديث أدب من آداب الدعاء، وهو أنه يلازم الطلب ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف: لأنا أشد خشية أن أحرم الدعاء من أن أحرم الإجابة. . . وقال الداودي: يخشى على من خالف وقال: قد دعوت فلم يستجب لي أن يُحرم الإجابة وما قام مقامها من الإدخار والتكفير" (3).
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 6340)، وصحيح مسلم (رقم: 2735).
(2) صحيح مسلم (رقم: (2735).
(3) فتح الباري (11/ 141).

ونقل عن ابن بطال أنه قال في شرح الحديث: "المعنى أنه يسأم فيترك الدعاء، فيكون كالمان بدعائه، أو أنه أتى من الدعاء ما يستحق به الإجابة، فيصير كالمبخل للرب الكريم الذي لا تعجزه الإجابة ولا ينقصه العطاء".

إن الواجب على من أراد أن يحقق الله رجاءه وأن يجيب دعاءه أن يدعو ربه وهو موقن بالإجابة؛ عظيم الثقة بالله، شديد الرجا فيما عنده.

قال ابن رجب رحمه الله: "ومن أعظم شرائطه [أي الدعاء] حضور القلب ورجاء الإجابة من الله تعالى كما خرج الترمذي من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ" (1)، وفي المسند عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ وَبَعْضُهَا أَوْعَى مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَيُّهَا النَّاسُ فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ" (2)، ولهذا نُهي العبد أن يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ" (3)، ونُهي أن يستعجل ويترك الدعاء؛ لاستبطاء الإجابة، وجعل ذلك من موانع الإجابة حتى لا يقطع رجاءه من إجابة دعائه ولو طالت المدة، فإنه سبحانه يحب الملحين في الدعاء. . . فما دام العبد يلح في الدعاء ويطمع في الإجابة من غير قطع الرجاء، فهو قريب من الإجابة، ومن أدمن قرع الأبواب يوشك أن يفتح له" اهـ (4).
_______________________
(1) سنن الترمذي (رقم: 3479)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 245).
(2) المسند (2/ 177)، وانظر: الصحيحة (رقم: 594).
(3) صحيح مسلم (رقم: 2679).
(4) جامع العلوم والحكم (2/ 403- 404).

وكيف لا يكون المسلم واثقاً بربه والأمور كلها بيده، ومعقودة بقضائه وقدره، فما شاء الله كان كما شاء، في الوقت الذي يشاء على الوجه الذي يشاء، من غير زيادة ولا نقصان ولا تقدم ولا تأخر، وحكمه سبحانه نافد في السموات وأقطارها وفي الأرض وما عليها وما تحتها وفي البحار والجو، وفي سائر أجزاء العالم وذراته يقلبها ويصرفها ويحدث فيها ما يشاء {مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِ} (1)، وأحاد بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمة وحكمة، له الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة والفضل، وله الثناء الحسن، شملت قدرته كل شيء، ووسعت رحمته كل شيء {يَسْـَٔلُهُۥ مَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍۢ} (2)، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا حاجة يسألها أن يعطيها، لو أن أهل سمواته وأهل أرضع إنسهم وجنهم حيهم وميتهم صغيرهم وكبيرهم رطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد منهم ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، {إِنَّمَآ أَمْرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيْـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (3)، ولهذا فإن مما يتنافى مع تمام الإيمان به وكمال توحيده سبحانه أن يدعوه العبد وهو غير عازم في مسألته؛ بأن يقول في دعائه: الله ارحمني إن شئت، أو اللهم اغفر لي إن شئت، أو اللهم وفقني إن شئت، ونحو ذلك لما في هذا القول من إيهام الاستغناء عن الله وعدم الثقة فيما عنده، ففي
_______________________
(1) سورة فاطر، الآية: (2).
(2) سورة الرحمن، الآية: (29).
(3) سورة يس، الآية: (82).

الصحيحين عن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ وَلْيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ"، وهذا لفظ    مسلم (1).

وفي الصحيحين أيضاً من حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ وَلَا يَقُولَنَّ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي فَإِنَّهُ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ" (2).

وقد أورد الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله هذا الحديث في كتاب التوحيد، وترجم له بقوله: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ"، وهو رحمه الله ينبه بهذه الترجمة إلى أن عدم العزم في الدعاء وتعليقه بالمشيئة مما يتنافى مع التوحيد الواجب الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم؛ لأن قول القائل: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ"، يدل على فتور في الرغبة، وقلة اهتمام في الطلب، وكأن هذا القول يتضمن أن هذا المطلوب إن حصل وإلا استغنى عنه، ومن كان هذه حاله لم يتحقق من حاله الافتقار والاضطرار الذي هو روح العبادة ولبها، وكان ذلك دليلاً على قلة معرفته بذنوبه وسوء عاقبتها وقلة معرفته برحمة ربه، وشدة احتياجه إليه، وضعف يقينه بالله عز وجل وإجابته للدعاء.
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 2679).
(2) صحيح البخاري (رقم: 6338)، صحيح مسلم (رقم: 2678).

ولهذا قال في الحديث: "فَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ"، أي ليجزم في طلبته، ويحقق رغبته، ويتيقن الإجابة، فإنه إذا فعل ذلك دل على علمه بعظيم ما يطلب من المغفرة والرحمة، وعلى أنه مفتقر إلى ما يطلب مضطر إليه، وعلى أنه محتاج إلى الله مفتقر إليه، لا يستغني عن مغفرته ورحمته طرفة عين (1).

ولهذا فإن الواجب على المسلم إذا دعا الله أن يجتهد ويلح في الدعاء، ولا يقل: "إِنْ شِئْتَ"، كالمستثني، بل يدعو دعاء البائس الفقير بإلحاح وصدق وحد واجتهاد، مع الثقة الكاملة بالله والطمع فيما عنده، وحسن الظن به سبحانه، وهو جل وعلا يقول كما في الحديث القدسي: "أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي" أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما (2).

وإنا نسأل الله الكريم أن يرزقنا حسن الظن به وعظيم الثقة فيما عنده، وأن يوفقنا لكل خير يحبه ويرضاه في الدنيا والآخرة.
_______________________
(1) انظر: تيسير العزيز الحميد (ص: 651 - 652).
(2) صحيح البخاري (رقم: 7405)، وصحيح مسلم (رقم: 2675).

التصنيف من آداب الدعاء عدم استعجال الإجابة
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0