التصنيفات

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عنه المهرج في صحيح مسلم أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (1)، وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (2)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" (3).

لا شك أن كل مسلم يدعو الله تبارك وتعالى، يدعوه وهو يرجو أن يجيب دعاءه، ويحقق رجاءه، ويعطيه سؤله، إلا أن الدعاء له شروط عظيمة وآداب مهمة ينبغي على المسلم أن يعتني بها ويحافظ عليها؛ ليستجاب له بتحقيقها دعاؤه، وليتحقق له بتكميلها أمله بالله ورجاؤه، وهذه الشروط والآداب وإن كانت جميعها مهمة عظيمة إلا أنها متفاوتة في الأهمية بعضها أهم من بعض، فمنها شروط صحة لا يُستجاب الدعاء إلا بها، ومنها آداب وسنن ومكملات، والمسلم الموفق يحافظ على ذلك كله ويعتني به جميعه ليكمل له نصيبه من الخير.

وقد مر معنا الإشارة إلى جملة طيبة من شروط الدعاء وآدابه، ولا سيما عند ذكر حديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عنه المهرج في صحيح مسلم أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (1)، وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (2)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" (3).
_______________________
(1) سورة المؤمنون، الآية: (51).
(2) سورة البقرة: الآية: (171).
(3) صحيح مسلم (رقم: 1015).

وفي هذا الحديث: "فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" إشارة إلى أن لقبول الدعاء واستجابته شروطاً لا بد من تحقيقها وضوابط لا بد من التزامها، والمخل بها حري به ألا يستجاب دعاؤه.

ويأتي في مقدمة شروط الدعاء بل وفي مقدمة شروط كل طاعة يتقرب بها العبد إلى الله الإخلاص لله تبارك وتعالى فهو شرط أساس وقيد مهم، لا قبول للدعاء ولا لأي عبادة إلا بتحقيقه والإتيان به، قال الله تعالى: {أَلَا لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ ۚ} (1)، وقال تعالى: {وَمَآ أُمِرُوٓا إِلَّا لِيَعْبُدُوا ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ  حُنَفَآءَ} (2)، وقال تعالى {فَٱدْعُوا ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ} (3)، وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّى بِٱلْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍۢ وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (4)، وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس رضي الله عنهما: "إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ" (5).
_______________________
(1) سورة الزمر، الآية: (3).
(2) سورة البينة، الآية: (5).
(3) سورة غافر، الآية: (14).
(4) سورة الأعراف، الآية: (29).
(5) المسند (1/ 293)، وسنن الترمذي (رقم: 2516)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (رقم: 2043).

فقوله صلى الله عليه وسلم "إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ" أمر بالإخلاص لله تعالى في السؤال والاستعانة بأن لا يُسأل إلا الله، ولا يُستعان إلا به، وهذا أمر متعين على كل مسلم "لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على دفع هذا الضرر ونيل المطلوب وجلب المنافع ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلا لله وحده؛ لأنه حقيقة العبودية" (1).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان أن يُدعى غير الله، فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، و{إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2)، {فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَٰلِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدًۢا} (3)، وسؤال المخلوق محرم لغير الحاجة [أي فيما يقدر عليه]، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة في تحريم المسألة له ولغيره، كحديث حكيم وقبيصة وغيرهما، ففي حديث حكيم بن حزام قال: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى"، أخرجاه (4).
_______________________
(1) جامع العلوم والحكم (1/ 481).
(2) سورة لقمان، الآية: (13).
(3) سورة الكهف، الآية: (110).
(4) صحيح البخاري (رقم: 1472)، وصحيح مسلم (رقم: 1035).

وعَنْ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً فَقَالَ: أَلَا تُبَايِعُونَ؟ فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَتُطِيعُوا - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ" رواه مسلم (1). . . 

وعَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلَالِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا قَالَ ثُمَّ قَالَ يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا"، رواه مسلم وأبو داود والنسائي (2).

وترك السؤال للمخلوق اعتياضاً بسؤال الخالق أفضل مطلقاً، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَب}. . .
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 1043).
(2) صحيح مسلم (رقم: 1044)، وسنن أبي داود (رقم: 1640)، وسنن النسائي (5/ 89).

وفي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "أصابتني فاقة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته يخطب الناس وهو يقول: يا أيها الناس، والله مهما يَكُونُ عِنْدَنَا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ نَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر، فقلت في نفسي: والذي بعثك بالحق لا أسألك شيئاً، فرجعت فأغنى الله وجاء بخير" (1)، فأبو سعيد فهم من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك سؤاله تعففاً واستغناء خير له من سؤاله، فإذا كان ترك سؤال الأنبياء في حياتهم أفضل مع الحاجة والفاقة، ومع عدم الحاجة يكون حراماً، فكيف سؤال الغائب والميت منهم ومن غيرهم. . ." (2).

وقال رحمه الله: ". . . فإن سؤال المخلوقين فيه ثلاث مفاسد: مفسدة الافتقار إلى غير الله، وهي من نوع الشرك، ومفسدة إيذاء المسؤول وهي من نوع ظلم الخلق، وفيه ذل لغير الله، وهو ظلم للنفس، فهو مشتمل على أنواع الظلم الثلاثة" (3) اهـ كلامه رحمه الله.

والمسلم الموفق يعلم علم يقين أنه لا ينفع ولا يضر ولا يُعطي ولا يمنع غير الله، ولهذا فهو يفرده وحده بالخوف والرجاء، والمحبة والسؤال، والتضرع والدعاء، والذل والخضوع، وإنا لنرجوه سبحانه أن يوفقنا وإياكم لتحقيق ذلك، وألا يكلنا إلى أحد سواه، فإنه سبحانه نعم المسؤول ونعم المرجو والمستعان.
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 1469، 6470)، وصحيح مسلم (رقم: 1053) بلفظ مقارب.
(2) تلخيص الاستغاثة (1/ 210 - 216) باختصار.
(3) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 66).

التصنيف إذا سألت فاسأل الله
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0