التصنيفات

من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ" (1).

سبق الإشارة إلى جملة من الأوقات الفاضلة التي يرجى فيها قبول الدعاء أكثر من غيرها؛ إذ إن المسلم في كل وقت يدعو الله عز وجل في أي ساعة من ليل أو نهار يرجو أن يتقبل الله منه، إلا أن هناك أوقاتاً فاضلى خصها الشارع بمزيد فضيلة فكان القبول فيها أرجى، والإجابة فيها أحرى من غيرها، فينبغي للمسلم أن يتحرى فيها الدعاء كثلث الليل الآخر، وكالساعة التي في يوم الجمعة، وغير ذلك مما سبق الإشارة إليه.

وكما أن هناك أوقاتاً فاضلة ينبغي أن يتحرى المسلم فيها الدعاء، فكذلك هناك أحوال فاضلة في المسلم يزيد فيها قربه من الله وإقباله عليه وخشوعه وخضوعه واستكانته، ينبغي على المسلم أن يكثر فيها الدعاء وأن يعظم فيها الطلب.

ومن ذلك في الصلاة، عندما يقف العبد بين يدي الله خاشعاً خاضعاً متذللاً منيباً، ولا سيما حال السجود، فإن العبد في سجوده يكون قريباً من ربه، فينبغي في هذه الحال أن يكثر من دعاء الله وسؤاله ومناجاته؛ لعظم قربه فيه من الله عز وجل، روى مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ" (1).
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 482).

وروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلَا إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ" (1)، أي حقيق وجدير أن يستجاب لكم.

وكذلك يتحرى الدعاء في آخر الصلاة قبل السلام بعد الصلاة الإبراهيمية على النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: "كُنْتُ أُصَلِّي وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مَعَهُ فَلَمَّا جَلَسْتُ بَدَأْتُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَعَوْتُ لِنَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلْ تُعْطَهْ سَلْ تُعْطَهْ" (2).

وروى الترمذي والنسائي وغيرهما عَنْ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ: "سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدْ اللَّهَ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي ثُمَّ عَلَّمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُصَلِّي فَمَجَّدَ اللَّهَ وَحَمِدَهُ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ تُجَبْ وَسَلْ تُعْطَ" (3).
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 479).
(2) المسند (1/ 445)، وسنن الترمذي (رقم: 593)، والسنن الكبرى للنسائي (رقم: 8252)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في تخريج المشكاة (رقم: 931).
(3) سنن الترمذي (رقم: 3476)، وسنن النسائي (2/ 44)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (رقم: 2765).

ومن الأحوال التي يكون فيها المسلم حرياً بالقبول وإجابة الدعاء، دعوته حال صيامه، فقد روى البيهقي من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً: "ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لَا تُردُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْصَائِم، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ" (1).

وكذلك عندما يكون المسلم متلبساً بإحرامه قاصداً بيت ربه، يريد الحج أو العمرة، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء، روى ابن ماجه في سننه وغيره بإسناد حسن عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَفْدُ اللَّهِ دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ" (2).

وأفضل ما يكون الدعاء للحاج يوم عرفة، فهو يوم إجابة الدعوات، وإقالة العثرات، وتفريج الكربات، وإغاثة الملهوفين، وقد ثبت في الحديث عن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (3)؛ إذ في هذا اليوم المبارك يغشى الناس من الإيمان والطمأنينة والخشوع والخضوع ما يكون سبباً لقبول دعواتهم وإقالة عثراتهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من المعلوم أن الحجيج عشية عرفة ينزل على قلوبهم من الإيمان والرحمة والنور والبركة ما لا يمكن التعبير عنه" (4).
_______________________
(1) السنن الكبرى للبيهقي (3/ 345)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم: 1797).
(2) سنن ابن ماجه (رقم: 2893)، وصحيح ابن حبان (رقم: 4613)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم: 1820).
(3) سنن الترمذي (رقم: 3585)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (4/ 7، 8) بمجموع الطرق والشواهد.
(4) مجموع الفتاوى (5/ 374).

وفي الحج أمكنه خاصة ينبغي للمسلم أن يقف بها ويتحرى فيها الدعاء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث ثبت عنه أنه كان يقف فيها ويستقبل القبلة ويدعو الله عز وجل، وهي بالأخص ستة أماكن: في عرفة كما تقدم، وفي المشعر الحرام كما قال الله تعالى: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍۢ فَٱذْكُرُوا ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ ۖ} (1)، وقد جاء في حديث جابر رضي عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل أن تطلع الشمس"، رواه مسلم (2).

وكذلك على الصفا والمروة لما ثبت في صحيح مسلم في حديث عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الصَّفَا يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَصْنَعُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَدْعُو وَيَصْنَعُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ" (3).
_______________________
(1) سورة البقرة، الآية: (198).
(2) صحيح مسلم (2/ 891).
(3) انظر: صحيح مسلم (2/ 888).

وكذلك بعد رمي الجمرتين الصغرى والوسطى، لما ثبت في صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم حتى يسهل فيقوم مستقبل القبلة، فيقوم طويلاً يدعو ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلاً ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله" (1).

فهذه ستة مواضع ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف فيها ويتحرى الدعاء ويرفع يديه، وعموماً فالدعاء له شأن عظيم في الحج والصلاة والصيام، بل له شأن بالغ في العبادات كلها، بل هو روح العبادة ولبها.
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 1751).

التصنيف أحوال للمسلم يُستجاب فيها الدعاء
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0