التصنيفات

قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِىٓ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1)

لا يزال الحديث ماضياً بنا عن بيان مكانة الدعاء وفضله ورفعة شأنه عند الله تبارك وتعالى؛ فإن من فضل الدعاء أن الله تبارك وتعالى وعد من دعاه أن يجيب دعاءه ويحقق رجاءه، ويعطيه سؤله،   قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِىٓ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1)، وهذا من فضله تبارك وتعالى وكرنه أنه ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالإجابة، وأحب منهم أن يكثروا من دعائه وسؤاله، كما قال سفيان الثوري رحمه الله:
"يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب"، رواه ابن أبي حاتم وغيره (2).

لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في الترغيب في الدعاء ببيان أن الله تبارك يعطي السائلين ويجيب الداعين، ولا يخيب رجاء المؤمنين، فهو سبحانه حيي كريم، أكرم من أن يرد من دعاه أو يخيب من ناجاه أو يمنع من سأله.

روى أبو داود والترمذي، وغيرهم بإسناد جوده الحافظ في الفتح عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا" (3)، أي: خالية. 
_______________________
(1) سورة غافر، الآية: (60).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (4/ 85).
(3) سنن أبي داود (رقم: 1488)، وسنن الترمذي (رقم: 3556)، وصحيح ابن حبان (رقم: 876)، وفتح الباري (11/ 143).

وفي حديث النزول الإلهي يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" (1)، وهو حديث متواتر رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جمع من الصحابة بلغ عددهم ثمانية وعشرين صحابياً.

وجاء في الحديث القدسي في بيان منزلة أولياء الله المتقين عند الله، أن الله تبارك وتعالى يقول: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ. . ."، رواه الإمام البخاري في صحيحه (2).

إن هذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل أبين دلالة على أن الله تبارك وتعالى لا يرد من سأله من عباده المؤمنين، ولا يخيب من رجاه، كن قد استُشكل هذا، كما ذكر الحافظ ابن حجر بأن جماعة من العباد والصلحاء دعوا وبالغوا ولم يجابوا، قال رحمه الله: "والجواب أن الإجابة تتنوع، فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور، وتارة يقع ولكن يتأخر لحكمة، وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير عين 
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 1145)، (6321)، (7494)، وصحيح مسلم (رقم: 758).
(2) صحيح البخاري (رقم: 6502).

المطلوب حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة، وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها" (1)، وقال رحمه الله تعالى: "إن كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة فتارة تقع بعين ما دعا به وتارة بعوض" (2)، وقد ورد في هذا المعنى الذي ذكره رحمه الله أحاديث عديدة، منها:

ما رواه الترمذي، والحاكم، وصححه الحافظ ابن حجر من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: "ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلا أتاه الله إياه أو صرف عنه من السوء مثلها" (3).

وروى الإمام أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم، وغيرهم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا قَالُوا إِذًا نُكْثِرُ قَالَ اللَّهُ أَكْثَرُ" (4).

فقد أخبر الصادق المصدوق في هذه الأحاديث أنه لا بد في الدعوة الخالية من العدوان من إعطاء السؤل معجلاً أو مثله من الخير مؤجلاً أو يصرف عنه من السوء مثله، وبهذا يتبين إجابة الداعي في سؤاله أعم من إعطائه عين المسؤول.
_______________________
(1) فتح الباري (11/ 345).
(2) فتح الباري (11/ 95 - 96).
(3) سنن الترمذي (رقم: 3573)، فتح الباري (11/ 96).
(4) المسند (3/ 18)، والأدب المفرد (رقم: 710)، والمستدرك (1/ 493)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الأدب (رقم: 547).

فهذا هو جواب الاستشكال السابق، وقد ذكر أهل العلم أيضاً جوابين آخرين:
أحدهما: أن إجابة الداعي لم تضمن عطية السؤال مطلقاً، وإنما تضمنت إجابة الداعي، والداعي أعم من السائل، وإجابة الداعي أعم من إعطاء السائل كما تقدم معنا في حديث النزول التفريق بينهما بقوله سبحانه: "مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ. . ."، ففرق بين الداعي والسائل، وبين الإجابة والإعطاء، لكن الاستشكال مع هذه الإجابة قائم من جهة أن السائل أيضاً موعود بالإعطاء كما في الحديث المتقدم.

الجواب الثاني: أن الدعاء في اقتضائه الإجابة شأنه كسائر الأعمال الصالحة في اقتضائها الإثابة، فالدعاء سبب مقتض لنيل المطلوب والسبب له شروط وموانع، فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب، وإلا فلا يحصل ذلك المطلوب، كما هو الشأن في قبول الأعمال الصالحة والكلمات الطيبة، وللموضوع صلة.

التصنيف إستجابة الله سبحانه للداعين
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0