التصنيفات


عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ" (1).

لقد ثبت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم الترغيب في قراءة الآيتين اللتين خُتمت بهما سورة البقرة في كل ليلة، وذكر في ذلك صلى الله عليه وسلم فضلاً عظيماً، ففي الصحيحين  عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ" (1).
 
وقد دل هذا الحديث على فضل قراءة هاتين الآيتين كل ليلة {ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰٓئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍۢ مِّن رُّسُلِهِۦ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ ۖ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ ۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ} (2).
_______________________
(1)  صحيح البخاري (رقم: 5009)، وصحيح مسلم (رقم: 808).
(2)  سورة: البقرة، الآيتان (285- 286).

 
وهما آيتان عظيمتان دلت الأولى منهما على إيمان الرسول والمؤمنين معه بالله وبكل ما أمرهم سبحانه بالإيمان به، وانقيادهم وطاعتهم له سبحانه في جميع أوامره، حيث أخبر فيها سبحانه أنهم آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا يتضمن الإيمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلاله، وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص، ويتضمن الإيمان بالملائكة الكرام، وبجميع ما ذكر عنهم في الوحي؛ من أسمائهم وأوصافهم وأعدادهم ووظائفهم، والإيمان بجميع الرسل عليهم السلام والكتب المنزلة عليهم، وما تضمنته الكتب من الأخبار والأوامر والنواهي، وأنهم لا يفرقون بين أحد من رسل الله، بل يؤمنون بالجميع، ويقولون سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأطعنا لك في ذلك، ويسألونه المغفرة على ما صدر منهم من تقصير أو إخلال، ويؤمنون بأن مرجعهم ومصيرهم إليه سبحانه فيجازيهم بما عملوا من خير وشر، هذا خلاصة ما دلت عليه الآية الأولى.
 
والآية الثانية فيها الإخبار بأن الله لا يكلف الناس ما لا يطيقون أو يشق عليهم فعله، بل كلفهم بما فيه غذاء أرواحهم، ودواء أبدانهم، وصلاح قلوبهم، وزكاء نفوسهم، وفيها الإخبار بأن لكل نفس ما كسبت من الخير وعليها ما اكتسبت من الشر، ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه وأنهم قابلوا أمر الله بالسمع والطاعة، وأن كل عامل سيجازى بعمله، وكان الإنسان عرضة للتقصير والخطأ والنسيان أخبر أنه لا يكلف العباد إلا ما يطيقون، وأخبر عن دعاء المؤمنين بذلك {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ} إلى آخر ما جاء في  الآيات من دعوات مباركة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال: "قد فعلت" أي: أجبت لمن دعا بهذه الدعوات.
 
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ الله: نَعم" (1).
_______________________
(1)  صحيح مسلم (رقم: 125).

 
فتضمنت الآيتان إيمان المؤمنين بالله، ودخولهم تحت طاعته وعبوديته واعترافهم بربوبيته، واضطرارهم إلى مغفرته، واعترافهم بالتقصير في حقه، وإقرارهم برجوعهم إليه، واستشعارهم لمجازاته إياهم على أعمالهم، ودعائهم إياه سبحانه، وسؤالهم العفو والمغفرة والرحمة والنصر على الأعداء، وهي بلا ريب معان عظيمة تدل على كمال إيمانهم وتمام قبولهم وصدق انقيادهم لله رب العالمين.
 
ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم أن من قرأهما في ليلة كفتاه، قال الشوكاني رحمه الله: "أي: أغنتاه عن قيام تلك الليلة بالقرآن، أو أجزأتاه عن قراءته القرآن، أو أجزأتاه فيما يتعلق الاعتقاد لما اشتملت عليه من الإيمان والأعمال إجمالاً، أو وقتاه من كل سوء ومكروه، أو كفتاه شر الشياطين، أو شر الثقلين أو شر الآفات كلها، أو كفتاه بما حصل له من ثواب غيرها، ولا مانع من إرادة هذه الأمور جميعها، ويؤيد ذلك ما تقرر في علم المعاني والبيان من أن حذف المتعلق مشعر بالعتميم، فكأنه قال: كفتاه من كل شر أو من كل ما يخاف، وفضل الله واسع" (1) اهـ كلامه رحمه الله.
 
وقد اختار ابن القيم - رحمه الله - أن معنى كفتاه أي: من شر ما يؤذيه فقال في كتابه الوابل الصيب: "الصحيح أن معناها: كفتاه من شر ما يؤذيه، وقيل: كفتاه م قيام الليل، وليس بشيء" (2) ا هـ.
_______________________
(1)  تحفة الذاكرين (ص: 99).
(2)  الوابل الصيب (ص: 156).
 

 
فحري بالمسلم أن يحافظ على قراءة هاتين الآيتين كل ليلة؛ لينال هذا الموعود الكريم بأن يكفي من كل شر يؤذيه، وقد ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: "ما أرى أحداً يعقل بلغه الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، فإنها من كنز تحت العرش" (1).
 
وقوله رضي الله عنه "فإنها من كنز تحت العرش" ثبت مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ" (2).
 
وفي المسند أيضاً عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْرَأْ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنِّي أُعْطِيتُهُمَا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ" (3).
 
ومما ورد في فضل هاتين الآيتين ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ هَذَا بَابٌ مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ فَقَالَ هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ وَقَالَ أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ" (4).
_______________________
(1)  أورده ابن كثير في تفسيره (1/ 507) وأورده النووي في الأذكار (ص: 89) بلفظ آخر وقال: "إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم".
(2)  المسند (5/ 180)، وصححه الألباني - رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 1060).
(3)  المسند (4/ 147)، وصححه الألباني - رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 1172).
(4)  صحيح مسلم (رقم: 806).

 
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اعلم ان الله سبحانه أعطى نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم وبارك - خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يؤت منه نبي قبله، ومن تدبر هذه الآيات وفهم ما تضمنته من حقائق الدين، وقواعد الإيمان الخمس، والرد على كل مبطل، وما تضمنته من كمال نعم الله تعالى على هذا النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، ومحبة الله سبحانه لهم وتفضيله إياهم على من سواهم فليهنه العلم" (1)، ثم ذكر - رحمه الله - كلاماً نفيساً في بيان معناها.
 
وفي كلامه - رحمه الله - حث على العناية بهاتين الآيتين حفظاً وقراءة وتدبراً وتحقيقاً، والله المرغوب أن يوفقنا وإياكم لذلك ولكل خير.
 
_______________________
(1)  مجموع الفتاوى (14/ 129).

التصنيف قِرَاءَةُ الآيَتَيْنِ الأَخِيرَتَينِ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0