التصنيفات

قال الله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلْأَرْضِ ۗ أَءِلَٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} (1)

لقد تضافرت الأدلة وكثرت النصوص في الكتاب والسنة الدالة على تحريم صرف الدعاء لغير الله، وأن ذلك نوع من الشرك الناقل من الملة، وأن الدعاء لا يكون إلا لمن بيده المنع والعطاء، والخفض والرفع، والقبض والبسط، وليس لله شريك في شيء من ذلك، قال الله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوٓءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلْأَرْضِ ۗ أَءِلَٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} (1)، وقال تعالى: {مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِ} (2)، وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ ٱلظَّٰلِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّۢ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍۢ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِۦ ۚ يُصِيبُ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ} (3)، ولهذا فإنه كيف يليق بإنسان، ويصح من عاقل خلقه الله فيدعو غيره، ويرزقه الله ويسأل سواه، ويعطيه الله ويقبل على غيره، مع أن كل مدعو غي الله ليس بيده عطاء ولا منع ولا نفع ولا ضر، يقول الله تعالى {قُلِ ٱدْعُوا ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِۦ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} (4)، 
_______________________
(1) سورة النمل، الآية: (62).
(2) سورة فاطر، الآية: (2).
(3) سورة يونس، الآيتان: (106- 107)
(4) سورة الإسراء، الآية (56).

ويقول تعالى: {قُلِ ٱدْعُوا ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍۢ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍۢ وَمَا لَهُۥ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍۢ وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُۥ ۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۖ قَالُوا ٱلْحَقَّ ۖ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ} (1)، ويقول تعالى: {وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا ٱسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍۢ} (2)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

ورغم وضوح هذا الأمر وكثرة الشواهد عليه، وظهور دلالتها على ذلك إلا أن من الناس من لا يزال يفت في عضدهم دعاة الضلال وأئمة الباطل، فيشبهون عليهم الأمور، ويلبسون عليهم الحقائق، ويزينون لهم الباطل، وقد خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الأئمة المضلين، روى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم وغيرهم بإسناد صحيح من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ" (3)، وهذا الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته قد وقع في بعض فترات التاريخ، حيث تسلط بعض دعاة الباطل وأئمة الضلال فزينوا للناس دعاء الاحجار والتعلق القبور، والتقدم إليها بأنواع القرابين والنذور، قال أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله: "صبئت قلوب أهل الإلحاد لانتشار كلمة الحق وثبوب الشرائع بين الخلق والامتثال لأوامرها. . . ثم مع ذلك لا يرون 
_______________________
(1) سورة سبأ، الآيتان: (22- 23).
(2) سورة فاطر، الآيتان: (13- 14).
(3) المسند (5/ 278، 284)، وسنن أبي داود (رقم: 4252)، والمستدرك (3/ 449) في حديث طويل، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 1773).

لمقالتهم نباهة ولا أثراً، بل الجوامع تتدفق زحاماً، والأذانات تملأ أسماعهم بالتعظيم لشأن النبي صلى الله عليه وسلم والإقرار بما جاء به، وإنفاق الأموال والأنفس في الحج مع ركوب الأخطار ومعاناة الأسفار ومفارقة الأهل والأولاد، فجعل بعضهم يندس في أهل النقل فيضع المفاسد على الأسانيد، ويضع السير والأخبار، وبعضهم يروي ما يقارب المعجزات من ذكر خواص في أحجار، وخوارق العادات في بعض البلاد، وإخبار عن الغيوب عن كثير من الكهنة والمنجمين ويبالغ في تقرير ذلك. . . فقالوا تعالوا نكثر الجولان في البلاد والأشخاص والنجوم الخواص. . ." (1)، إلخ كلامه رحمه الله.

فتأمل أخي المسلم كيف تمكن هؤلاء بخفي مكرهم وعظم كيدهم من صد كثير من عوام المسلمين وجهالهم عن الحق والهدى الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقلهم منه إلى أنواع من الضلالات وصنوف من الباطل، من تعلق بقبور أو تبرك بأشجار وأحجار، أو ذبح ونذر لأضرحة وقباب، ونحو ذلك من الضلال المفارق لدين الإسلام، المباين لملة التوحيد القائمة على إخلاص العمل للمعبود، والمتابعة في ذلك كله للرسول صلى الله عليه وسلم.

ومما ينبغي أن يعلم هنا أن سبب ضلال هؤلاء وغيرهم ممن تأثر بهم وسار على طريقهم ثلاثة أشياء:
_______________________
(1) انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص: 68- 69).

أحدها: إما اعتمادهم على ألفاظ متشابهة مجملة مشكلة منقولة عن الأنبياء، وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة وتمسكوا بها، وهم كلما سمعوا لفظاً فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم وإن لم يكن دليلاً على ذلك، والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك إما أن يفوضوها وإما أن يتأولها كما يصنع أهل الضلال يتبعون المتشابه من الأدلة العقلية والسمعية، ويعدلون عن المحكم الصريح، قال الله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِىٓ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ ۖ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ} (1).

الأمر الثاني: أخبار منقولة إليهم عن الأنبياء ظنوها صدقاً، وهي مكذوبة عليهم، وضعها عباد الأصنام وأئمة الباطل انتصاراً لمذاهبهم وتأييداً لباطلهم، وليس في جميع ما يروى في هذا الباب حديث واحد مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتمد باتفاق أهل المعرفة بحديثه صلى الله عليه وسلم، بل المروي في ذلك إنما يعرف أهل المعرفة بالحديث أنه من الموضوعات، وإما تعمداً من واضعه، وإما غلطاً منه، مثل نسبتهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو حسم أحدكم ظنه في حجر لنفعه الله به" (2)، ونحو ذلك من الإفك البين والكذب الواضح.

الأمر الثالث: خوارق ظنوها من الآيات، وهي من أحوال الشيطان (3)، وحكايات حُكيت لهم عن 
_______________________
(1) سورة آل عمران، الآية: (7).
(2) أورده ملا علي قاري في الموضوعات (ص: 189)، وقال: "قال ابن تيمية: موضوع. وقال ابن القيم: هو من كلام عباد الأصنام الذين يحسنون ظنهم بالأحجار. وقال ابن حجر العسقلاني: لا أصل له".
(3) انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية (1/ 316 - 317).

أصحاب القبور مثل أن فلاناً استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلاناً دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت له، وفلاناً نزل به ضر فاسترجى صاحب القبر فكشف ضره، والنفوس مولعة بقضاء حوائجها وإزالة ضروراتها، ومن هذا المدخل نفذ الشيطان إلى قلوب هؤلاء، وتدرج بهم في دعوتهم إليه، فحسن للواحد من هؤلاء أولاً الدعاء عند القبور، وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات سحره، فإذا تقرر ذلك عنده نقله درجة أخرى من الدعاء عنده من الدعاء به والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذي قبله، فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به أبلغ في تعظيمه واحترامه وأنجح في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله، ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثناً يعكف عليه، ويوقد عليه القناديل، ويعلق الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده (1)، والواجب الحذر من الشيطان وجنوده، ولزوم سبيل المؤمنين بإخلاص العمل كله لله عز وجل مع المتابعة في ذلك كله للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، جعلنا الله وإياكم من أتباعه وهدانا لزوم سنته.
_______________________
(1) انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 233- 234).

التصنيف خطورة دعاة الباطل وأئمة الضلال
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0