التصنيفات

روى أبو داود في سننه عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ! سَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنْ النَّارِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ" (2).

إن مما ينبغي للمسلم أن يتنبه له في أمر الدعاء أن يحذر غاية الحذر من الاعتداء فيه، فإن الله جل وعلا لما أمر عباده في آية الأعراف بالدعاء تضرعاً وخفية أخبر في أثناء ذلك بأنه لا يحب المعتدين، وذلك في قوله تعالى: {ٱدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} (1)، وهذه الآية الكريمة وإن كان التخذير فيها من الاعتداء ورد بصيغة العموم متناولاً لكل نوع من أنواع  الاعتداء، إلا أن تناولها للتحذير من الاعتداء في الدعاء أكثر لمجيئها في سياق الأمر به وذكر شروطه وآدابه.

قال شيه الإسلان ابن تيمية رحمه الله: وقوله تعالى: {إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} قيل: المراد إنه لا يحب المعتدين في الدعاء، كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأأنبياء وغير ذلك، وقد روى أبو داود في سننه عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ! سَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنْ النَّارِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ" (2).
_______________________
(1) سورة الأعراف، الآية: (55).
(2) سنن أبي داود (رقم: 96)، والمسند (4/ 86، 87)، (5/ 55)، وسنن ابن ماجه (رقم: 3864)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم: 87).

ثم قال رحمه الله: وإن كان الاعتداء مراداً بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شيء دعاء كان أو غيره، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوٓا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ}  (1)" (2) اهـ.

وعلى هذا فإن الآية الكريمة تكون دالة على أمرين اثنين:
أحدهما: محبوب إلى الله مرغب فيه، وهو دعاء الله عز وجل تضرعاً وخفية.
والثاني: مكروه له مسخوط عنده منه أشد التحذير، وهو الاعتداء، فأمر بما يحبه وندب إليه ورغب فيه، وحذر مما يبغضه، وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير، وهو إخباره سبحانه بأنه لا يحب فاعله، ومن لا يحبه الله فأي خير ينال وأي فضل يؤمل (3).

ومن هنا كان متأكداً على كل مسلم أن يكون في حذر بالغ وحيطة كاملة من الاعتداء في الدعاء بتجاوز حد الشريعة فيه، والبعد عن ضوابطه وأصوله المعلومة، والاعتداء مشتق من العدوان، وهو تجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه من حدود الشريعة وضوابطها المعلومة، كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (4)، أي أن ما فصله الله سبحانه لعباده من الشرائع والأحكام يجب ملازمته والوقوف عنده وعدم تعديه {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (5)، وأي ظلم للنفس أنكى وأشد من تجاوز الحدود الشرعية وضوابطها المهمة المتبعة.
_______________________
(1) سورة البقرة، الآية: (190).
(2) مجموع الفتاوى (15/ 22- 23).
(3) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (15/ 23- 24).
(4) سورة البقرة، الآية: (229).
(5) سورة الطلاق، الآية: (1).

ثم كيف يؤمل في الإجابة ويطمع في القبول من يتجاوز في دعائه ضوابط الشريعة ويتعدى حدودها المقررة، فالدعاء المعتدة فيه لا يحبه الله ولا يرضاه، فكيف يؤمل صاحبه أن يُستجاب منه ويقبل.

والاعتداء في الدعاء يتناول أموراً عديدة متفاوتة في الخطورة والبعد عن الحق والاعتدال، إلا أن أشد الاعتداء خطراً وأعظمه ضرراً على صاحبه دعاء غير الله تعالى، فإن ذلك أعظم العدوان وأقبح الذل والهوان؛ إذ كيف يتوجه المخلوق بدعائه ورجائه ودله وخضوعه إلى مخلوق مثله لا يُعطي ولا يمنع، ولا يخفض ولا يرفع، ويدع من بيده أزمة الأمور ومقاليد السماوات والأرض؛ ولهذا فإن من يدعو غير الله وهو يؤمل أن يُستجاب له قد بلغ النهاية في الضلال ولم يحصل من ذلك إلا على الخيبة والحرمان والذل والخسران في الدنيا والآخرة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَٰفِلُونَ} (1).

ومن الاعتداء في الدعاء سؤال الله عز وجل ما لا يجوز أن يسأله من المعونة على فعل المحرمات وارتكاب الذنوب وغشيان المعاصي، كأن يسأل الله أن يعينه على سفر يريد به الإثم والباطل، أو أن ييسر له طريقاً للفاحشة والعدوان.
_______________________
(1) سورة الأحقاف، الآية: (5).

ومن الاعتداء في الدعاء أن يسأل الله ما علم من حكمته سبحانه أنه لا يفعله، كأن يسأله تخليده إلى يوم القيامة، أو أن يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب والهواء، أو أن يسأله إطلاعه على غيبه وما استأثر سبحانه بعلمه، أو أن يسأله أن يجعله من المعصومين، أو أن يهب له ولداً من غير زوجة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب فاعله (1).

ومن الاعتداء في الدعاء سؤال الله ما لا يليق بالسائل من المنازل والدرجات، كأن يسأل الله منازل الأنبياء والمرسلين، أو يكون ملكاً أو نحو ذلك.

وكذلك من العدوان في الدعاء أن يدعو الله غير متضرع، بالدعاء هذا يكون كالمستغني المدلي على ربه.

ومن الاعتداء أن يعبده بما لم يشرع، ويثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه.

ومن الاعتداء في الدعاء كذلك الدعاء على المؤمنين باللعنة والخزي والهوان، قال بعض السلف في معنى المعتدين في الآية المتقدمة: "هم الذي يدعون على المؤمنين فيما لا يحل، فيقولون: اللهم اخزهم، اللهم العنهم" (2).
_______________________
(1) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (15/ 22).
(2) تفسير البغوي (2/ 166).

وجاء عن سعيد بن جبير في معنى الآية قال: "لا تدعوا على المؤمن والمؤمنة بالشر: اللهم اخزه والعنه ونحو ذلك، فإن ذلك عدوان" (1).

ومن الاعتداء رفع الصوت به رفعاً يخل بالأدب، قال عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج: "إن من الدعاء اعتداء: يكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة" (2).

وعموماً فإن الإنسان بحسب مفارقته للسنة وابتعاده عن هدي خير الأمة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه يكون نصيبه من الاعتداء والتجاوز، ومن لزم هدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وتقيد بسنته أمن من الزلل، وحفظ بإذن الله من الخطل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإنما اشتغلت قلوب طوائف من الناس بأنواع من العبادات المبتدعة إما بالأدعية، وإما من الأسفار، وإما من السماعات ونحو ذلك؛ لإعراض قلوبهم عن المشروع، وإن قاموا بصورة المشروع، وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه عاقلاً لما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح مهتماً بها كل الاهتمام أغنته عن كل ما يتوهم فيه خيراً من جنسها، ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بعقله، وتدبر بقلبه وجد فيه من الفهم والحلاوة والهدى وشفاء القلوب والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره، ومن اعتاد الدعاء المشروع في أوقاته كالأسحار وأدبار الصلوات والسجود ونحو ذلك، أغناه عن كل دعاء 
_______________________
(1) رواه بن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي (3/ 475).
(2) تفسير الطبري (5/ 207).

مبتدع في ذاته، أو في بعض صفاته، فعلى العاقل أن يجتهد في اتباع السنة في كل شيء من ذلك، ويعتاض عن كل ما يظن من البدع أنه خير بنوعه من السنن، فإنه من يتحرى الخير يعطه، ومن يتوقى الشر يوقه". اهـ كلامه رحمه الله (1).

وهو كما ترى كلام عظيم النفع جليل الفائدة من علم الأعلام وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأسكنه الجنة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفره.
_______________________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 384).

التصنيف التحذير من الاعتداء في الدعاء
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0