عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ: "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ - أَوْ صَاحِبُهُ - يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ" (1).
قوله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِىٓ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1).
إن من فضائل الدعاء ودلائل عظم شأنه أن الله تبارك وتعالى يحبه من عباده مع كمال غناه عنهم، ووعد الداعين له من عباده بالإجابة، وذلك في قوله سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِىٓ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1). وهذا من لطف الله بعباده وعظيم إكرامه لهم وإحسانه بهم، فهو سبحانه لا يخيب عبداً دعاه، ولا يرد مؤمناً ناجاه، يقول الله تعالى كما في الحديث القدسي: "يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. . ." وقال فيه: "يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ"، رواه مسلم في سياق طويل من حديث أبي ذر رضي الله عنه (2).
_______________________
(1) سورة غافر، الآية: (60).
(2) صحيح مسلم (رقم: 2577).
وفي الحديث دلالة على أن الله يحب أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم ودنياهم من الطعام والشراب والكسوة وغير ذلك، كما يسألونه الهداية والمغفرة والتوفيق والإعانة على الطاعة ونحو ذلك، ووعدهم سبحانه على ذلك كله بالإجابة.وفيه أيضاً دلالة على كمال قدرة الله سبحانه وكمال ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنفد ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأولين والآخرين من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد، وفي ذلك حث على الإكثار من سؤاله وإنزال جميع الحوائج به، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينه" (1)، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ وَلْيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ" (2).
وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: "إذا دعوتم الله فارفعوا في المسألة، فإن ما عنده لا ينفد منه شيء، وإذا دعوتم فاعزموا فإن الله لا مستكره له" (3).
وتأمل قوله سبحانه في الحديث المتقدم: "لَم يَنَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ"، فإن فيه تحقيقاً بأن ما عند الله لا ينقص ألبتة، كما قال تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍۢ ۗ } (4)،
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 4684)، وصحيح مسلم (رقم: 993).
(2) صحيح مسلم (رقم: 2679).
(3) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 21، 47) مقطعاً.
(4) سورة النحل، الآية: (96).
فإن البحر إذا غُمس فيه إبرة ثم أخرجت لم تنقص من البحر بذلك شيئاً، وكذلك لو فرض أن عصفوراً شرب منه فإنه لا ينقص البحر ألبتة، وهو سبحانه إذا أراد شيئاً من عطاء أو عذاب أو غير ذلك قال له: كن فيكون، كما قال سبحانه {إِنَّمَآ أَمْرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيْـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (1)، وقال سبحانه {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَٰهُ أَن نَّقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ } (2)، فكيف يتصور فيمن هذا شأنه أن ينقص ما عنده أو ينفد، ولقد أحسن من قال:
لا تخضعن لمخلوق على طمع فإن ذاك مضر منك بالدين
واسترزق الله مما في خزائنه فإنما هي بين الكاف والنون (3).إن العبد محتاج إلى الله في كل شؤونه، ومفتقر إليه في جميع حاجاته، لا يستغني عن ربه ومولاه طرفة عين ولا أقل من ذلك، وأما الرب سبحانه فإنه غني حميد، لا حاجة له بطاعات العباد ودعواتهم، ولا يعود نفعها إليه، وإنما هم الذين ينتفعون بها، ولا يتضرر بمعاصيهم وإنما هم الذين يتضررون بها، ولهذا قال سبحانه: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍۢ جَدِيدٍۢ وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍۢ } (4)، وقال تعالى: {مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ} (5)،
_______________________
(1) سورة يس، الآية: (82)
(2) سورة النحل، الآية: (40).
(3) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص: 214 - 218).
(4) سورة فاطر، الآيات: (15-17).
(5) سورة الإسراء، الآية: (15).
وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَىٰٓ إِن تَكْفُرُوٓا أَنتُمْ وَمَن فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} (1)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.ثم إن الله تبارك وتعالى مع كمال غناه عن عباده، وعن طاعتهم ودعواتهم، وتوباتهم، فإنه يحب سماع دعاء الداعين المخبتين، ورؤية عبادة العابدين المطيعين، ويفرح بتوبة التائبين المنيبين، بل إنه سبحانه يفرح بتوبة عبده أشد من فرح من ضلت راحلته التي عليها طعامه وشرابه بفلاة من الأرض، وطلبها حتى أيس منها، واستسلم للموت، ثم غلبته عينه فنام واستيقظ، وهي قائمة عنده، وهذا أعلى ما يتصوره المخلوق من الفرح، فالله سبحانه يفرح بتوبة عباده أشد من فرح هذا يلقياه لراحلته، هذا مع غناه سبحانه الكامل عن طاعات عباده وتوباتهم إليه، وذلك كله إنما يعود نفعه إليهم دونه، وهذا من كمال جوده وإحسانه إلى عباده ومحبته لنفعهم ودفع الضر عنهم، فهو يحب من عباده أن يعرفوه ويحبوه ويتقوه ويخافوه ويطيعوه ويتقربوا إليه، ويحب أن يعلموا أنه يغفر الخطيئات ويجيب الدعوات ويقيل العثرات ويكفر السيئات ويرزق من يشاء بغير حساب.
فحري بعبد الله المؤمن إذا عرف كمال ربه وجلاله، وكرمه وإحسانه، وفضله وجوده أن ينزل به جميع حاجاته، وأن يكثر من دعائه ومناجاته، وأن لا يقنط من رحمة ربه ولا ييأس من روحه فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
فاللهم وفقنا لهداك، وأعنا على طاعتك، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
_______________________
(1) سورة إبراهيم: الآيتان: (7-8).
التصنيف | افتقار العبد إلى الله تعالى وحاجته إلى دعائه |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |