عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ".
ما رواه البخاري عَنْ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ"
سبق أن مرَّ معنا ذكر أنواع استفتاحات النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، وبيان شيء من معانيها ودلالتها، وسبق الإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على نوع من تلك الأنواع، بل يستفتح بهذا تارة وبهذا تارة، ومن يتأمل في هذه الاستفتاحات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنها على ثلاثة أنواع: نوع فيه الثناء على الله، ونوع فيه إخبار من العبد عن عبادة الله، ونوع فيه دعاء وطلب.
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أصلاً عظيماً في هذا الباب وأطال في ذكر سواهده ودلائله، ألا هو أنَّ أعلى الذكر ما كان ثناء على الله، ويليه ما كان خبراً من العبد عن عبادة الله، ويليه ما كان دعاء من العبد، ثم قال - رحمه الله - عقب ذلك: "إذا تبين هذا الأصل، فأفضل أنواع الاستفتاح ما كان ثناء محضاً، مثل (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ)، ولكن ذاك فيه من الثناء ما ليس في هذا، فإنه تضمن ذكر الباقيات الصالحات التي هي أفضل الكلام بعد القرآن، وتضمن قوله" (تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ) وهما من القرآن أيضاً، ولهذا كان أكثر السلف يستفتحون به، وكان عمر الخطاب رضي الله عنه يجهر به يعلمه الناس.
وبعده النوع الثاني وهو الخبر عن عبادة العبد، كقوله: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. . . إلخ)، وهو يتضمن الدعاء، وإن استفتح العبد بهذا بعد ذلك فقد جمع بين الأنواع الثلاثة، وهو أفضل الاستفتاحات كما جاء ذلك في حديث مصرحاً به، وهو اختيار أبي يوسف وابن هبيرة الوزير، ومن أصحاب أحمد صاحب الإفصاح، وهكذا استفتحُ أنا.
وبعده النوع الثالث، كقوله: (اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. . . إلخ). . ." اهـ كلامه رحمه الله (1).وكان - رحمه الله - قد قرر في مواضع من مؤلفاته قاعدة نافعة تتعلق بالعبادات التي جاءت في الشريعة على أنواع، وهي أنها تُفعل على جميع تلك الأنواع الواردة، قال رحمه الله: "قد تقدم القول في مواضع أن العبادات التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم على أنواع يشرع فعلها على جميع تلك الأنواع، لا يكره منها شيء، وذلك مثل أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاح، ومثل الوتر أول الليل وآخره، ومثل الجهر بالقراءة في قيام الليل والمخافتة، وأنواع القراءات التي أنزل القرآن عليها، والتكبير في العبد، ومثل الترجيع في الأذان وتركه، ومثل إفراد الإقامة وتثنيتها. . ."، ثم ذكر - رحمه الله - أن الكلام في هذه المسألة من مقامين:
أحدهما: في جواز تلك الوجوه كلها بلا كراهة، والمقام الثاني: هو أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع متنوعة، وإن قيل إن بعض تلك الأنواع أفضل، فالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أن يفعل هذا تارة وهذا تارة أفضل من لزوم أحد الأمرين وهجر الآخر، وذلك أن أفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يُداوم على استفتاح واحد قطعا" (2).
_______________________
(1) مجموع الفتاوى (22/ 394- 395).
(2) انظر: مجموع الفتاوى (22/ 336- 343).
وقال رحمه الله: "ونحن إذا قلنا التنوع في هذه الأذكار أفضل، فهو أيضاً تفضيل لجنس التنوع، والمفضول قد يكون أنفع لبعض الناس لمناسته له. . . لأن انتفاعه به أتم، وهذه حال أكثر الناس، قد ينتفعون بالمفضول لمناسبته لأحوالهم الناقصة ما لا ينتفعون بالفاضل، فالعبادة التي ينتفع بها فيحضر لها قلبه ويرغب فيها أفضل من عبادة يفعلها مع الغفلة وعدم الرغبة، وعلى هذا قد تكون مداومته على النوع المفضول أنفع لمحبته وشهود قلبه وفهمه ذلك الذكر" (1).ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنواع أخرى من الاستفتاح كان يستفتح بها صلاة الليل، منها ما رواه البخاري عَنْ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ مَلِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَقَوْلُكَ حَقٌّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ" (2).
وهذا الذكر تضمن الأنواع الثلاثة المتقدمة: الثناء على الله، والإخبار من العبد عن عبادة الله، والسؤال والطلب، وقدم ما هو خبر عن الله واليوم الآخر ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر ما هو خبر عن توحدي العبد وإيمانه، ثم ختمه بالسؤال والطلب (3).
_______________________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (22/ 348).
(2) صحيح البخاري (رقم: 1120)، وصحيح مسلم (رقم: 769).
(3) انظر: مجموع الفتاوى (22/ 390).
وهو في الجملة ذكر عظيم ودعاء مبارك مشتمل على أصول الإيمان وأسس الدين وحقائق الإسلام، وفيه التوسل إلى الله وبحمده والثناء عليه والإقرار بعبوديته، ثم سؤاله تبارك وتعالى مغفرة الذنوب.ومن استفتحاته صلى الله عليه وسلم لصلاة الليل ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ افْتَتَحَ الصًّلًاةَ: "اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (1).
وهذا فيه التوسل إليه سبحانه بربوبيته العامة والخاصة لهؤلاء الثلاثة من الملائكة الموكلين بالحياة؛ فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم (2)، وتوسل إليه سبحانه بكون فاطر السموات والأرض، أي: خالقهما ومبدعهما، وبعلمه سبحانه الغيب والشهادة، أي: السر والعلانية، وبأنه سبحانه هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والهداية هي العلم بالحق مع قصده وإيثاره على غيره والمهتدي هو العامل بالحق المريد له، وهي أعظم نعمة لله على العبد، نسأل الله أن يهدينا جميعاً إليه صراط مستقيماُ، وأن يوفقنا لكل خير.
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 770).
(2) انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (2/ 172).
التصنيف | أنواع استفتاحات الصلاة |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |