لقد تميزت الأدعية الشرعية والأذكار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكمالها في مبناها ومعناها، فألفاظها وعباراتها موجزة مختصرة، ومعانيها ودلالاتها عظيمة واسعة، متضمنة الخير كله، مشتملة على المقاصد العالية
تأمل كيف قال الله [تعالى] في آية الذكر: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِى نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (1)، وفي آية الدعاء قال: {ٱدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ} (2)، فذكر التضرع فيهما معاً
مرَّ معنا قول الله تبارك وتعالى: {ٱدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ}، وما فيه من نهي وتحذير من الاعتداء في الدعاء بجميع صوره، وأن الدعاء الذي يتضمن الاعتداء لا يحبه الله ولا يرضاه ولا يقبله، مما يتطلب من المسلم الحيطة والجذر من الوقوع في شيء من ذلك.
والآية الكريمة مع هذا تضمنت أيضاً بيان أدب آخر عظيم من آداب الدعاء، ألا وهو إخفاؤه وإسراره وعدم الجهر به، وذلك في قوله سبحانه: {ٱدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ}، أي سراً لا علناً، كما قال الله تعالى: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِى نَفْسِكَ}، وقد ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ" (1).
قال الحسن البصري: "لقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم عز وجل، وذلك أن الله تعالى يقول: {ٱدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ}، وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال: {إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيًّا} (2)".
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 2992)، وصحيح مسلم (رقم: 2704).
(2) سورة مريم، الآية: (3).
وقال ابن جريج رحمه الله: "يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة" (2).فإخفاء الدعاء وعدم الجهر به أدب لا بد منه، ويترتب عليه من الفوائد والفضائل والمناع ما لا يعد ولا يحصى، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لإخفاء الدعاء فوائد عديدة يتبين من خلالها أهمية إخفاء الدعاء وكثرة العوائد والفضائل المترتبة على إخفائه.
أحدهما: أنه أعظم إيماناً؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي.
وثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم، فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به.
ثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع، الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده، فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، قد انكسر قلبه وذلت جوارحه وخشع صوته.
رابعها: أنه أبلغ في الإخلاص.
خامسها: أنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه، فكلما خفض صوته كان أبلغ في تجريد همته وقصده للمدعو سبحانه.
_______________________
(1) الزهد لابن المبارك (ص 45) وتفسير الطبري (5/ 514).
(2) تفسير الطبري (5/ 515).
سادسها: أنه دال على قرب صاحبه للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد، ولهذا أثنى الله على عبده زكريا بقوله: {إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥ نِدَآءً خَفِيًّا} (1)"، فلما استحضر القلب قرب الله عز وجل، وأنه أقرب إليه من كل قريب أخفى دعاءه ما امكنه.سابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل، والجوارح لا تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته، فإنه قد يمل اللسان، وتضعف قواه، وهذا نظير من يقرأ ويكرر، فإذا رفع صوته فإنه لا يطول له، بخلاف من خفض صوته.
ثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات، فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد، فلا يحصل على هذا تشويش ولا غيره، وإذا جهر به فرطت له الأرواح البشرية ولا بد، ومانعته وعارضته، ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفزع عليه همته، فيضعف أثر الدعاء، ومن له تجربة يعرف هذا، فإذا أسر الدعاء أمن هذه المفسدة.
تاسعها: أن أعظم النعمة الإقبال والتعبد، ولكل نعمة حاسد على قدرها، دقت أو جلت، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة، فإن أنفس الحاسدين متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد، وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام: {بُنَىَّ لَا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَىٰٓ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} (2) الآية.
_______________________
(1) سورة مريم، الآية: (3).
(2) سورة يوسف، الآية: (5).
فهذه جملة من الفوائد العظيمة والثمار الكريمة التي تترتب على إخفاء الذكر وعدم الجهر به، ومن خلالها يظهر للمسلم أهمية إخفاء الدعاء وإسراره، بخلاف الجهر به وإعلانه، فإنه يترتب عليه ضد ذلك.ثم إن شيخ الإسلام رحمه الله عقد مقارنة مفيدة بين الذكر والدعاء في هذا الباب، بعد أن بين أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه، قال رحمه الله: "وتأمل كيف قال [تعالى] في آية الذكر: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِى نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} (1)، وفي آية الدعاء قال: {ٱدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ} (2)، فذكر التضرع فيهما معاً، وهو التذلل والتمسكن والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء.
وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها، وخص الذكر بالخفية لحاجة الذاكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها، ولا بد لمن أكثر من ذكر الله أن يثمر له ذلك محبته، والمحبة ما لم تقترن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل تضره؛ لأنها توجب التواني. . . فما حفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب من هذه الثلاث فسد فساداً لا يُرجى صلاحه أبداً، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه، فتأمل أسرار القرآن وحكمته في اقتران الخيفة بالذكر، والخفية بالدعاء.
_______________________
(1) سورة الأعراف، الآية: (205).
(2) سورة الأعراف، الآية: (55).. . . وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء؛ لأن الدعاء مبني عليه، فإن الداعي ما لم يطمع في سؤاله ومطلوبه لم تتحرك نفسيته لطلبه؛ إذ طلب ما لا طمع له فيه ممتنع.
وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه، فذكر في كل آية ما هو اللائق بها من الخوف والطمع، فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور" (1). اهـ كلامه رحمه الله.
وإذا كان الجهر بالدعاء يترتب عليه ما تقدم من فوات لتلك المصالح والفوائد إن كان صادراًمن فرد، فلا ريب أن صدوره من جماعة وبأداء واحد أبلغ في تفويت تلك المصالح والفوائد المترتبة عليه وكان السلف رحمهم الله يعدون ذلك نوعاً من الإحداث في الدين والخروج عن نهج سيد المرسلين.
روي عن مجالد بن مسعود السلمي رضي الله عنه: أنه سمع قوماً يعجون في دعائهم، فمشى إليهم، فقال: أيها القوم، لقد أصبتم فضلاً على من كان قبلكم، أو لقد هلكتم، فجعلوا يتسللون رجلاً رجلاً حتى تركوا بقعتهم التي كانوا فيها" (2).
فالله وحده المستعان، وهو ولي التوفيق والسداد.
_______________________
(1) مجموع الفتاوى (15/ 19- 20).
(2) أورده السيوطي في الدر المنثور (3/ 475).
التصنيف | من آداب الدعاء إخفاؤه |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |