اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحاً إلا ملئ ترحاً"، إلا أن عبد الله المسلم صائر إلى خير في كل أحواله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له رواه مسلم
الحديث هنا عما يشرع للمسلم أن يقوله عندما يصاب بمصيبة في نفسه أو لده أو ماله أو نحو ذلك، وليعلم أولاً أن سنة الله ماضية في عباده بأن يبتليهم في هذه الحياة الدنيا بأنواع من البلايا وألوان من المحن والرزايا، فيبتليهم بالفقر تارة والغني تارة أخرى، وبالصحة تارة وبالمرض تارة أخرى، وبالسراء حيناً وبالضراء حيناً لآخر، وليس في الناس إلا من هو مبتلي، إما بفوات محبوب أو حصول مكروه أو زوال مرغوب، فسرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سررت يوماً أحزنت دهراً، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً، وما ملأت داراً حبرة إلا ملأتها عبرة، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحاً إلا ملئ ترحاً"، إلا أن عبد الله المسلم صائر إلى خير في كل أحواله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له رواه مسلم (1).
وقد أرشد الله عباده إلى الحال التي بنبغي أن يكونوا عليها عند المصيبة، وإلى الذكر الذي ينبغي ان بقوله المصاب، يقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ ۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوٓا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ أُولَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ} (2).
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 2999).
(2) سورة: البقرة، الآيات (155- 157).
فأخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة أنه يبتلي عباده بالمحن؛ ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، والموقن من المرتاب، وذكر أنواعاً مما يبتليهم به، فهو يبتليهم بشيء من الخوف، أي: من الأعداء، والجوع، أي: بنقص الطعام والغذاء، ونقص من الأموال، وهو يشمل جميع أنواع النقص المعتري للأموال، سواء بالجوائح السماوية أو الغرق أو الضياع أو السلب أو غير ذلك، ويبتليهم كذلك بنقص الأنفس بذهاب الأحباب من الأولاد والأقارب والأصحاب، ويدخل تحت هذا ما يصيب البدن من أنواع الأمراض والأسقام، ويبتليهم كذلك بنقص الثمرات من الحبوب وثمار النخيل والأشجار، وهي أمور لا بد وأن تقع؛ لأن العليم الخبير أخبر بوقوعها، وحظ الإنسان من المصيبة هو ما تحدث له من أثر، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، ولهذا لا بد أن يعلم المصاب أن الذي ابتلاه بمصيبته هو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل بلاءه عليه ليهلكه ولا ليعذبه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه وإيمانه، وليسمع تضرعه وابتهاله ودعاءه، وليره طريحاً ببابه لائذاً بجنابه، مسكور القلب بين يديه، رافعاً يدي الضراعة إليه، يشكو بثه وحزنه إليه؛ فينال بذلك عظيم موعود الله وجزيل عطائه ووافر آلائه ونعمائه، {وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوٓا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ أُولَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ} (1)، فما أوسعه من فضل وما أكرمه من عطاء، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "نعم العدلان ونعمت العلاوة".
_______________________
(1) سورة: البقرة، الآيات (155- 157).
لقد جعل الله هذه الكلمة كلمة الاسترجاع وهي قول المصاب: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ" ملجأ وملاذاً لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين، فإذا لجأ المصاب إلى هذه الكلمة الجامعة لمعاني الخير والبركة سكن قلبه، واطمأنت نفسه، وهدأ باله، وعوضه الله في مصيبته خيراً.روى مسلم في صحيح عن أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: "إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا قَالَتْ فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْلَفَ اللَّهُ لِي خَيْرًا مِنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (1). أي: أن الله أكرمها فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن يتأمل هذه الكلمة العظيمة كلمة الاسترجاع، يجد أنها مشتملة على علاج عظيم لذوي المصائب، بل فيها لهم أبلغ علاج وأنفعه في الحال والمآل، وكم لهذه الكلمة من الآثار الحميدة والعواقب الرشيدة والنتائج العظيمة في الدنيا والآخرة، ويكفي في هذا قول الله تعالى: {أُولَٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ} (2)، لكن مع قولها لا بد من فهم مدلولها وتحقيق مقصودها؛ ليحظى العبد بهذا الموعود الكريم والثواب العظيم، وقد تضمنت هذه الكلمة أصلين عظيمين، إذا حققهما العبد علماً وعملاً تسلى عن مصيبته، ونال عظيم الصواب وجميل المآب.
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 918).
(2) سورة: البقرة، الآية (157).
أما الأصل الأول: فهو أن يتحقق العبد أن نفسه وأهله وماله وولده ملك لله عز وجل، فهو الذي أوجدهم من العدم، ويتصرف فيهم بما شاء، ويحكم فيهم بما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، وهذا مستفاد من قوله: "إنا لله" أي: نحن مماليك له، وتحت تصرفه وتدبيره، وهو ربنا ونحن عبيده، وكل شيء واقع علينا فبقضائه وقدره، {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِى كِتَٰبٍۢ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ} (1).والأصل الثاني: أن يعلم العبد أن مصيره ومرجعه إلى الله، كما قال الله تعالى: {وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ} (2)، وقال تعالى: {إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰٓ} (3)، فلا بد للعبد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويأتي ربه يوم القيامة فرداً كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، وإنما يأتيه بالحسنات والسيئات، وهذا مستفاد من قوله: "وإنا إليه راجعون"، وهو إقرار من العبد بأنه راجع إلى الله، وأنه سبحانه سيجازيه على ما قدم في هذه الحياة، وعندئذ يتجه إلى شغل نفسه بما ينفعه عند لقاء الله، فإذا قالها المصاب على هذا الوصف مستحضراً لمعناها محققاً لمدلوها ومقتضاها هدي إلى صراك مستقيم.
_______________________
(1) سورة: الحديد، الآية (22).
(2) سورة: النجم، الآية (42).
(3) سورة: العلق، الآية (8).
روى أبو نعيم في الحلية عن الحسن بن علي العابد قال: "قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك توشك أن تبلغ فقال الرجل: يا أبا علي، إنا لله وإنا إليه راجعون، قال له الفضيل: تعلم ما تقول؟ فقال الرجل: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال الفضيل: تعلم ما تفسيره؟ قال الرجل: فسره لنا يا أبا علي، قال: قولك إنا لله، تقول: أنا لله عبد وأنا إلى الله راجع، فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع، فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع، فليعلم بأنه موقوف، ومن علم بأنه موقوف فليعلم بأنه مسئول، ومن علم أن مسؤول، فليعد للسؤال جواباً، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تُحسن فيما بقي، يغفر لك ما مضى فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقى" (1).وفي هذا دلالة على عظم اهتمام السلف رحمهم الله بمعاني الأذكار ومعرفة دلالاتها وتحقيق مقاصدها وغاياتها، وتأكيدهم على هذا الأمر العظيم؛ لتتحقق للعبد ثمارها، وتظهر فيه آثارها، وتتوافر له خيراتها وبركاتها.
_______________________
(1) حلية الأولياء (8/ 113).
التصنيف | ما يقول إذا أصابته مصيبة |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |