عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُولُ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ" (2).
{فَٱعْلَمْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنۢبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَىٰكُمْ} (1)
لقد كان حديثنا السابق عن التوبة وبيان فضلها وعظم شأنها وشدة احتياج العبد إليها، وعن بعض الأحكام المتعلقة بها، وكثيراً ما تأتي التوبة في النصوص مقرونة بالاستغفار، كقوله تعالى: {ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍۢ فَضْلَهُۥ} (1)، وقول هود لقومه: {ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓا إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} (2)، وقول صالح لقومه: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوٓا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (3)، وقول شعيب: {وَٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ } (4).
وفي هذا دلالة على عظم التلازم بين الاستغفار والتوبة، وشدة احتياج العبد إليهما للوقاية من شرور الذنوب وغوائلها، والذنوب نوعان:
"ذنب قد مضى، فالاستغفار منه: طلب وقاية شره، وذنب يخاف وقوعه فالتوبة: العزم على أن لا يفعله، والرجوع إلى الله يتناول النوعين، رجوع إليه ليقيه شر ما مضى، ورجوع إليه ليقيه شر ما يستقبل من نفسه وسيئات أعماله.
_______________________
(1) سورة هود، الآية: (3).
(2) سورة هود، الآية: (52).
(3) سورة هود، الآية: (61).
(4) سورة هود، الآية: (90).
وأيضاً فإن المذنب بمنزلة من ركب طريقاً تؤديه إلى هلاكه، ولا توصله إلى المقصود، فهو مأمور أن يوليها ظهره، ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته، والتي توصله إلى مقصوده، وفيها فلاحه، فههنا أمران لا بد منهما: مفارقة شيء والرجوع إلى غيره، فخصت التوبة بالرجوع، والاستغفار بالمفارقة. . " (1).أما إذا أفردت التوبة بالذكر أو أفرد الاستغفار، فإن كل واحد منهما يتناول معنى الآخر.
والاستغفار له شأن عظيم ومكانة عالية، فهو كما بين شيخ الإسلام "يخرج العبد من الفعل المكروه إلى الفعل المحبوب، ومن العمل الناقص إلى العمل التام، ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل، فإن العابد لله، والعارف بالله في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة يزداد علماً بالله وبصيرة في دينه وعبوديته، بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله، ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقها، فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، بل هو مضطر إليه دائماً في الأقوال والأحوال، في الغوائب والمشاهد؛ لما فيه من المصالح وجلب الخيرات ودفع المضرات، وطلب الزياد في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية" (2).
_______________________
(1) مدارج السالكين لابن القيم (1/ 308).
(2) مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/ 696).ومما يبين عظم شأن الاستغفار ورفيع مكانته أنه كثيراً ما يأتي في النصوص مقروناً مع كلمة التوحيد لا إله إلا الله التي هي خير الكلمات وأفضلها وأجلها على الإطلاق، كقوله تعالى: {فَٱعْلَمْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنۢبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَىٰكُمْ} (1)، وقوله: {وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍۢ فَضْلَهُۥ ۖ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّىٓ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍۢ كَبِيرٍ} (2)، وقوله: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰٓ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَٰحِدٌ فَٱسْتَقِيمُوٓا إِلَيْهِ وَٱسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ} (3)، وقوله: {وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۚ قَالَ يَٰقَوْمِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُۥٓ} إلى قوله: {وَيَٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓا إِلَيْهِ} (4)، وكقوله صلى الله عليه وسلم في كفارة المجلس:
"سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك" (5)، وكقوله صلى الله عليه وسلم عقب الانتهاء من الوضوء: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" (6)، وكقوله صلى الله عليه وسلم في دعائه الذي كان يختم به الصلاة: "اللهم أغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت" (7)، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
_______________________
(1) سورة محمد، الآية: (19).
(2) سورة هود، الآية: (3).
(3) سورة فصلت، الآية: (6).
(4) سورة هود، الآيات: (50- 52).
(5) سنن أبي داود (رقم: 4857)، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (4487).
(6) سنن الترمذي (رقم: 55)، وصححه الألباني رحمه الله في الإرواء (1/ 134).
(7) صحيح مسلم (رقم: 771).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد ثبتت دائرة الاستغفار بين أهل التوحيد، واقترانها بشهادة أن لا إله إلا الله، من أولهم إلى آخرهم، ومن آخرهم إلى أولهم، ومن الأعلى إلى الأدنى، وشمول دائرة التوحيد والاستغفار للخلق كلهم، وهم فيها درجات عند الله، ولكل عامل مقام معلوم، فشهادة أن لا إله إلا الله بصدق ويقين تذهب الشرك كله، دقه وجله خطأه وعمده، أوله وآخره، سره وعلانيته، وتأتي على جميع صفاته وخفاياه ودقائقه، والاستغفار يمحو ما بقي من عثراته، ويمحو الذنب الذي هو من شعب الشرك، فإن الذنوب كلها من شعب الشرك، فالتوحيد يذهب أصل الشرك والاستغفار يمحو فروعه، فأبلغ الثناء قول لا إله إلا الله، وأبلغ الدعاء قول أستغفر الله" (1).وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين التوحيد والاستغفار في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه المخرج في سنن الترمذي يقول: صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً" (2).
وهو حديث عظيم جامع لأهم وأعظم أسباب مغفرة الذنوب، حيث تضمن الحديث ثلاثة أسباب عظيمة يحصل بها مغفرة الذنوب:
_______________________
(1) مجموع الفتاوى (11/ 696 - 697).
(2) سنن الترمذي (رقم: 3540)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم: 127).
أحدها: دعاء الله مع رجائه، فمن أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنباً لم يرج مغفرته من غير ربه، ويعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا الله.الثاني: الاستغفار، فإن الذنوب ولو عظمت وبلغت من الكثرة عنان السماء، فإن الله يغفرها إذا طلب العبد من ربه المغفرة.
الثالث: التوحيد، وهو السبب الأعظم للمغفرة، فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ} (1)، فمن جاء يوم القيامة موحداً فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة (2).
فهذه أبواب الخير مفتوحة، ومداخله مشرعة، ومناراته ظاهرة، فنسأله سبحانه الهداية إليها والتوفيق لتحقيقها.
_______________________
(1) سورة النساء، الآية: (48، 116).
(2) انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص: 367 -375).
التصنيف | قرن التوبة بالاستغفار، وقرن الاستغفار بالتوحيد |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |