ثبت في صحيح مسلم عن عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَعَافِهِ، وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، قَالَ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّتَ"
عن الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ"
الحديث هنا عن دعاء القنوت في صلاة الوتر، ففي أبي داود والنسائي وغيرهما عن الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" (1).
وهذا دعاء عظيم مشتمل على مطالب جليلة ومقاصد عظيمة، ففيه سؤال الله الهداية والعافية، والتولي والبركة والوقاية، مع الإقرار بأن الأمور كلها بيده وتحت تدبيره، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (2).
وقوله في أول هذا الدعاء: "اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ" فيه سؤال الله الهداية التامة النافعة الجامعة لعلم البعد بالحق وعمله به، فليست الهداية أن يعلم العبد الحق بلا عمل به، وليست كذلك أن يعمل بلا علم نافع يهتدي به، فالهداية النافعة هي التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح.
وقوَله: "فِيمَنْ هَدَيْتَ" فيه فوائد:
أحدهما: أنه سؤال له أن يدخله في جملة المهديين وزمرتهم ورفقتهم وحسن أولئك رفيقاً.
_______________________
(1) سنن أبي داود (رقم: 1425)، وسنن النسائي (رقم: 1745)، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح أبي داود (رقم: 1263).
(2) انظر في شرح هذا الدعاء: شفاء العليل لابن القيم (ص: 111)، ودروس وفتاوى في الحرم المكي للشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - (ص: 131- 137).
الثانية: أن فيه توسلاً إليه بإحسانه وإنعامه، أي: يا رب قد هديت من عبادك بشراً كثيراً فضلاً منك وإحساناً فأحسن إلي كما أحسنت إليهم واهدني كما هديتهم.الثالثة: أن ما حصل لأولئك من الهدى لم يكن منهم ولا بأنفسهم وإنما كان منك فأنت الذي هديتهم.
وقوله: "وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ" فيه سؤال الله العافية المطلقة وهي العافية من الكفر والفسوق والعصيان والغفلة والأمراض والأسقام والفتن، وفعل ما لا يحبه وترك ما يحبه، فهذه حقيقة العافية، ولهذا ما سئل الرب شيئاً أحب إليه من العافية، لأنها كلمة جامعة للتخلص من الشر كله وأسبابه، ومما يدل على هذا ما رواه البخاري في الأدب المفرد وغيره شَكَلِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً قَالَ: "قُلْ اللَّهُمَّ عَافِنِي مِنْ شَرِّ سَمْعِي وَبَصَرِي وَلِسَانِي وَقَلْبِي وَشَرِّ مَنِيِّي" (1).
فهي دعوة جامعة وشاملة للوقاية من الشرور كلها في الدنيا والآخرة وفي الأدب المفرد وغيره عن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: يا عباس! سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَمَكَثْتُ قليلاً ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُ اللَّهَ بِهِ يَا رَسُول الله! فَقَالَ لِي يَا عَبَّاسُ! يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ! سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" (2).
_______________________
(1) الأدب المفرد (رقم: 663)، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح الأدب المفرد (رقم: 515).
(2) الأدب المفرد (رقم: 726)، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح الأدب المفرد (رقم: 558).
وقوله: "وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ" فيه سؤال الله التولي الكامل الذي يقتضي التوفيق والإعانة والنصر والتسديد والإبعاد عن كل ما يغضب الله، ومنه قوله تعالى: {ٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ ۖ} (1)، وقوله: {إِنَّ وَلِِّىَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْكِتَٰبَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى ٱلصَّٰلِحِينَ} (2)، وقوله {وَٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلْمُؤْمِنِينَ} (3)، وقوله: {وَٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلْمُتَّقِينَ} (4)، وهي ولاية خاصة بهم تقتضي حفظهم ونصرهم وتأييدهم ومعونتهم ووقايتهم من الشرور، ويدل على هذا قوله في هذا الدعاء: "إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ" أي أنه منصور عزيز غالب بسبب توليك له، وفي هذا تنبيه على ان من حثل له ذل في الناس فهو بنقصان ما فاته من تولي الله، وإلا فمع الولاية الكاملة ينتفي الذل كله، ولو سلط عليه من في أقطار الأرض فهو العزيز غير الذليل.وقوله: "وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ" البركة هي الخير الكثير الثابت، ففي هذا سؤال الله البركة في كل ما أعطاه من علم أو مال أو ولد أو مسكن أو غير ذلك؛ بأن يثبته له ويوسع له فيه، ويحفظه ويسلمه من الآفات.
وقوله: "وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ" أي شر الذي قضيته، فإن الله تعالى قد يقضي بالشر لحكمة بالغة، والشر واقع في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله، فإن فعله وخلقه خير كله، وهذا الدعاء يتضمن سؤال الله الوقاية من الشرور والسلامة من الآقات والحفظ عن البلايا والفتن.
_______________________
(1) سورة: البقرة، الآية (257).
(2) سورة: الأعراف، الآية (196).
(3) سورة: آل عمران، الآية (68).
(4) سورة: الجاثية، الآية (19).وقوله: "فَإِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ" فيه التوسل إلى الله سبحانه بأنه يقضي على كل شيء، لأن له الحكم التام والمشيئة النافذة والقدرة الشاملة، فهو سبحانه يقضي في عباده بما يشاء ويحكم فيهم بما يريد، لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، وقوله: "وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ" أي: أنه سبحانه لا يقضي عليه أحد من العباد بشيء، فالعباد لا يحكمون على الله، بل الله سبحانه هو الذي يحكم عليهم بما يشاء ويقضي فيهم بما يريد.
وقوله: "إِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" هكذا كالعتليل لما سبق في قوله: "وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ"، فإن الله سبحانه إذا تولى العبد فإنه لا يذل، وإذا عادى العبد فإنه لا يعز، ولا يطلب نيل العز، والوقاية من الذل إلا منه سبحانه: {قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ} (1).
وقوله: "تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ" معنى تباركت أي تعاظمت يا الله، فلك العظمة الكاملة والكبرياء التام، وعظمت أوصافك وكثرت خيراتك وعم إحسانك.
وقوله: "وَتَعَالَيْتَ" أي: أن لك العلو المطلق ذاتاً وقدراً وقهراً، فهو سبحانه العلي بذاته، قد استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله، والعلي بقدره، وهو علو صفاته وعظمتها، فإن صفاته عظيمة، لا يماثلها ولا يقاربها صفة أحد، والعلي بقهره حيث قهر كل شيء، ودانت له الكائنات بأسرها، فجميع الخلق نواصيهم بيده فلا يتحرك منهم متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه.
وعلى كل فهذا دعاء عظيم جامع لأبواب الخير وأصول السعادة في الدنيا والآخرة، فعلى المسلم أن يعتني به في هذه الصلاة - صلاة الوتر - التي يختم بها صلاة الليل، ولا بأس لو زاد المسلم على ذلك الدعاء لعموم المؤمنين بما استطاع من خير، والاستغفار لهم، والدعاء على أعدائهم والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله الموفق.
_______________________
(1) سورة: آل عمران، الآية (26)
التصنيف | دعاء القنوت في صلاة الوتر |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |