روى أبو داود والترمذي، وقال: "حسن"، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مِرَارٍ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلَّا عَافَاهُ اللَّهُ" (1).
ذلك من أعظم الإثم وأشد الضلال، والله يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَٰفِلُونَ} (1).
سبق الكلام على أهمية الإخلاص في الدعاء وأنه شرط هام من شروط قبوله، وأن عدم إخلاصه لله من أعظم الاعتداء والعدوان، والذل والهوان، سواء في ذلك من دعا غير الله دعاء مستقبلاً، أو جعله واسطة بينه وبين الله، فإن ذلك من أعظم الإثم وأشد الضلال، والله يقول: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَٰفِلُونَ} (1).
وها هنا أمر لا بد من التنبيه عليه، وهو أن طائفة من الضلال من عباد القبور والأضرحة والقباب ونحوها قد يلبسون على العوام وجهال الناس في هذا الباب بذكر بعض القصص والأخبار بأن فلاناً دعا عند قبر فلان فأجيب، وأن جماعات دعوا عند قبور جماعات من الأنبياء والصالحين فاستجيب لهم الدعاء، كقولهم: إن قبر فلان ترياق المجربين، وزعمهم بأنه عند القبور تقال العثرات، وتستجاب الدعوات، وتتنزل الرحمات، وأن بعضهم رأى منامات في الدعاء عند قبور بعض الأشياخ، وجرب أقوام استجابة الدعاء عند قبور معروفة، ونحو ذلك مما لبس به هؤلاء الضلال على بعض جهال المسلمين، فصرفوهم بذلك عن التوحيد الخالص واليقين الصادق والثقة بالله إلى التعلق بالقبور والعكوف عندها والاستغاثة بأهلها ودعائهم من دون الله.
_______________________
(1) سورة الأحقاف، الآية: (5).
وما من ريب أن القصص والحكايات لها تأثير بالغ في قلوب العامة والجهال، فكم أوقعت كثيراً منهم في صنوف الضلال وأنواع من الباطل، والواجب على بعد الله المسلم أن لا يبني دينه على شيء من ذلك؛ إذ لا عبرة به ولا معول عليه، ولا حجة فيه وإنما الحجة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا في الحكايات المختلفة والقصص الملفقة والأخبار المزورة.قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله وهو بصدد بيان بعض الأمور التي أوقعت بعض الناس في الافتتان بالقبور والتعلق بها مع أن ساكنيها أموات لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، قال رحمه الله: "ومنها [أي الأمور التي أدت ذلك]: حكايات حُكيت لهم عن تلك القبور أن فلاناً استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها، وفلاناً دعاه أو دعا به في حاجة فقضيت له، وفلاناً نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره، وعند السدنة والمقابرية من ذلك شيء كثير يطول ذكره، وهم من أكذب خلق الله تعالى على الأحياء والأموات. . ."، إلى آخر كلامه رحمه الله (1).
وما كان لهذا التقرير الفاسد والاستدلال الباطل أن يروج بين أحد من المنتسبين للإسلام والمنتمين لهذه الملة الحنيفية؛ لولا غلبة الجهل وقلة العلم بحقيقة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك ووسائله.
وقد ذكر أهل العلم أجوبة كثيرة ووجوهاً عديدة في الرد تبين وهاء هذا الاستدلال وفساده، ومن تلك الأجوبة:
_______________________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 233).
أن دين الله تام كامل لا نقص فيه، والله يقول: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلْإِسْلَٰمَ دِينًا} (1)، فما لم يكن ديناً زمن نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه فليس اليوم ديناً، ولن يكون ديناً إلى أن تقوم الساعة، والله جل وعلا لا يقبل في الدين إلا ما دلت عليه كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأما الحكايات والمنامات والقصص والأخبار فليست مما يقام عليه شرع أو يُبنى عليه دين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإنما المتبع عند علماء الإسلام في إثبات الأحكام هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل السابقين الأولين، ولا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصاً أو استنباطاً بحال" (2).ولم يرد في تحري الدعاء عند القبور آية محكمة ولا سنة متبعة ولم ينقل في جواز ذلك شيء ثابت عن القرون الثلاثة المفضلة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" (3)، ولم ينقل شيء من ذلك عن إمام معروغ، ولا عالم متبع.
_______________________
(1) سورة المائدة، الآية: (3).
(2) اقتضاء الصراط (ص: 344).
(3) صحيح مسلم (رقم: 2534)، والمسند (2/ 228).
ثم إن كثيراً من هذه الحكايات والمنامات التي تروى في هذا الباب لا تصح عمن نقلت عنه، وإنما هي منقولة مكذوبة مفتراة، ولا سيما منها ما ينسب إلى بعض أهل العلم والفضل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذا والحمد لله لم ينقل عن إمام معروف ولا عالم متبع، بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذباً على صاحبه، وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف، ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ فيه ويصيب، أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه، فحرف النقل عنه كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أذن في زيارة القبور بعد النهي عنها فهم المبطلون أن ذلك هو الزيادة التي يفعلونها من حجها للصلاة عندها والاستغاثة بها" (1). ا هـ.ثم إن قضاء حاجات بعض هؤلاء الداعين وتحقق رغباتهم لا يدل على صحة عملهم وسلامته، فقد تكون الإجابة استدراجاً وابتلاءً وامتحاناً، فليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود أو تحقق به المراد دليلاً على أنه سائغ في الشريعة، فإن حصول التأثير ليس دليلاً على المشروعية، فالسحر والطلسمات والعين وغير ذلك من المؤثرات في العالم بإذن الله قد يقضي الله بها كثيراً من أغراض النفوس الشريرة، ومع ذلك فهي محرمة وباطلة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس مجرد كون الدعاء حصل به المقصود ما يدل على أنه سائغ في الشريعة، فإن كثيراً من الناس يدعون من دون الله من الكواكب والمخلوقين، ويحصل ما يحصل من غرضهم وبعض الناس يقصدون الدعاء عند الأوثان والكنائس وغير ذلك، ويدعو التماثيل التي في الكنائس ويحصل ما يحصل من غرضه، وبعض الناس يدعو بأدعية محرمة باتفاق المسلمين ويحصل ما يحصل من غرضهم.
_______________________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 343 - 344) مختصراً.
فحصول الغرض ببعض الأمور لا يستلزم إباحته، وإن كان الغرض مباحاً، فإن ذلك الفعل قد يكون فيه مفسدة راجحة على مصلحته، والشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فجميع المحرمات من الشرك والخمر والميسر والفواحش والظلم قد يحصل لصاحبه به منافع ومقاصد، لكن لما كانت مفاسدها راجحة على مصالحها نهى الله ورسوله عنها كما أن كثيراً من الأمور كالعبادات والجهاد وإنفاق الأموال قد تكون مضرة، لكن لما كانت مصلحته راجحة على مفسدته أمر به الشارع، فهذا أصل يجب اعتباره" (1).ثم إن تلك التأثيرات قد تكون من الشيطان فإنه قد يتراءى لبعض هؤلاء في صورة من يعظمه أو يعتقد فيه أو ينتسب إليه، وقد يخاطب هؤلاء أو يقضي بعض حوائجهم بإذن الله فيكون فتنة لهم ويظن أن ذلك كرامة لهؤلاء المدعوين، وما هو في الحقيقة إلا فتنة، ولا يعلم هؤلاء أن هذا من جنس ما تفعله الشياطين بعباد الأوثان حيث تتراءى أحياناً لمن يعبدها وتخاطبهم ببعض الأمور الغائبة وتقضي لهم بعض طلباتهم فكان ذلك أعظم أسباب عبادة الأوثان والتعلق بها.
والحاصل أن مثل تلك الحكايات لا يستقيم الاحتجاج بها ولا يصح الاعتماد عليها، ولا يُبنى دين الله على شيء منها وإنما يُبنى على ما جاء في الكتاب والسنة لا على الظنون والتخرصات والقصص والحكايات والتجارب والمنامات، أعاذنا الله من الزلل ووفقنا لصائب القول وصحيح العمل.
_______________________
(1) مجموع الفتاوى (1/ 264- 265).
التصنيف | ترويج أهل الباطل للأدعية الباطلة بالحكايات الملفقة |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |