ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عَائِشَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" (1).
روى الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي"
إن في السنة أياماً فاضلة وأوقاتاً شريفة، الدعاء فيها أفضل، والإجابة أحرى، والقبول فيها أرجى، وله سبحانه الحكمة البالغة {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} (1) فلكمال حكمته وقدرته وتمام علمه وإحاطته يختار من خلقه ما يشاء من الأوقات والأمكنة والأشخاص، فيخصهم سبحانه بمريد فضله وجزيل عنايته ووافر منته، وهذا من أكبر آيات ربوبيته وأعظم شواهد وحدانيته وتفرده بصفات الكمال، وأن الأمر له سبحانه من قبل ومن بعد، يقضي في خلقه بما يشاء، ويحكم فيهم بما يريد {فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلْأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ} (2).
وإن مما خصه الله عز وجل من الأوقات بمزيد تفضيله ووافر تكريمه شهر رمضان، حيث فضله على سائر الشهور، والعشر والأواخر من لياليه حيث فضلها على سائر الليالي، وليلة القدر حيث جعلها لمزيد فضلها عنده وعظيم مكانتها خيراً من ألف شهر، وفخم سبحانه أمرها، وأعلا شأنها، ورفع مكانتها عنده، أنزل فيها وحيه المبين وكلامه الكريم وتنزيله الحكيم، هدى للمتقين وفرقانا للمؤمنين، وضياء ونوراً ورحمة.
_______________________
(1) سورة: القصص، الآية (68).
(2) سورة: الجاثية، الآيتان (36-37).
يقول الله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ فِى لَيْلَةٍۢ مُّبَٰرَكَةٍ ۚ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَآ ۚ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْىِۦ وَيُمِيتُ ۖ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ ٱلْأَوَّلِينَ} (1).ويقول سبحانه: {إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ وَمَآ أَدْرَٰكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍۢ تَنَزَّلُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍۢ سَلَٰمٌ هِىَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ ٱلْفَجْرِ} (2).
فلله ما أعظمها من ليلة، وما أجل خيرها، وما أوفر بركتها، ليلة واحدة خير من ألف شهر، أي ما يزيد على ثلاثة وثمانين عاماً عمر رجل معمر، وهو عمر طويل لو قضاه المسلم كله في طاعة الله عز وجل، فليلة القدر وهي ليلة واحدة خير منه، هذا لمن حصل فضلها ونال بركتها.
قال مجاهد رحمه الله: "لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍۢ ليس في تلك الشهور ليلة القدر"، وكان قال قتادة والشافعي وغير واحد.
وفي هذه الليلة المباركة يكثر تنزل الملائكة لكثرة بركتها؛ إذا الملائكة يتنزلون مع تنزل البركة، وهي سلام حتى مطلع الفجر، أي أنها خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر، وفي هذه الليلة يفرق كل أمر حكيم، أي: يُقدر فيها ما يكون في تلك السنة بإذن الله العزيز الحكيم فهو متقدم على خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
_______________________
(1) سورة: الدخان، الآيات (3-8).
(2) سورة: القدر.
إن ليلة هذا شأنها ينبغي على المسلم أن يحرص على طلبها تمام الحرص ليفوز بثوابها، وليغنم خيرها، وليحصل أجرها، ولينال بركتها، والمحروم من حرم الثواب ومن تمر عليه مواسم الخير وأيام البركة والفضل وهو مستمر في ذنوبه متماد في غيه، منهمك في عصيانه، أتلفته الغفلة، وأهلكه الإعراض، وصدته الغواية، فما أعظم حسرته وما أشد ندامته، ومن لم يحرص على الربح في هذه الليلة المباركة فمتى يكون الحرص، ومن لم ينب إلى الله في هذا الوقت الشريف فمتى تكون الإنابة، ومن لم يزل متقاعساًً فيها عن الخيرات ففي أي وقت يكون العمل.إن الحرص على طلب هذه الليلة وتحري الطاعة فيها والاجتهاد في الدعاء من سمات الأخيار وعلامات الأبرار، بل إنهم يُحلون على الله فيها أن يكتب لهم العفو والمعافاة؛ لأنها الليلة التي يكتب فيها ما يكون من الإنسان في عامه كله، ففي هذه الليلة يدعون ويلحون، وفي عامهم كله يجدون ويجتهدون، ومن الله يطلبون العون ويسألون التوفيق.
روى الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" (1).
وهذا الدعاء المبارك عظيم المعنى عميق الدلالة كبير النفع والأثر، وهو مناسب لهذه الليلة غاية المناسبة، فهي كما تقدم الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، ويقدر فيها أعمال العباد لسنة كاملة حتى ليلة القدر الأخرى، فمن رزق في تلك الليلة العافية وعفا عنه ربه فقد أفلح وفاز وربح أعظم الربح ومن أوتي العافية في الدنيا والآخرة فقد أوتي الخير بحذافيره، والعافية لا يعدلها شيء.
_______________________
(1) سنن الترمذي (رقم: 3513)، وابن ماجه (رقم: 3850)، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح ابن ماجه (رقم: 3105).
روى البخاري في الأدب المفرد والترمذي في السنن عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، فَمَكَثْتُ أَيَّامًا ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ فَقَالَ لِي يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ سَلْ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" (1).وروى البخاري في الأدب والترمذي في السنن عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "سَلْ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "سَلْ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "سَلْ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ" (2).
وروى البخاري في الأدب المفرد عن أوسط بن إسماعيل قال: سمعت أَبا بَكْرٍ حِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْأَوَّلِ مَقَامِي هَذَا ثُمَّ بَكَى ثُمَّ قَالَ عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ مَعَ الْبِرِّ وَهُمَا فِي الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّهُ مَعَ الْفُجُورِ وَهُمَا فِي النَّارِ وَسَلُوا اللَّهَ الْمُعَافَاةَ
_______________________
(1) الأدب المفرد (رقم: 726)، سنن الترمذي (رقم: 3514)، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح الأدب (رقم: 558).
(2) الأدب المفرد (رقم: 637)، وسنن الترمذي (رقم: 3512)، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح الأدب (495).فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْتَ رَجُلٌ بَعْدَ الْيَقِينِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ الْمُعَافَاةِ ثُمَّ قَالَ لَا تَقَاطَعُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا" (1).
ولهذا فإن من الخير للمسلم أن يكثر من هذه الدعوة المباركة في كل وقت وحين، ولا سيما في ليلة القدر التي فيها يفرق كل أمر حكيم، وليعلم المسلم أن الله عز وجل عفو كريم يحب العفو {وَهُوَ ٱلَّذِى يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِۦ وَيَعْفُوا عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (2)، ولم يزل سبحانه ولا يزال بالعفو معروفاً، وبالصفخ والغفران موصوفاً، ولك احد مضطر إلى عفوه محتاج إلى مغفرته، لا غنى لأحد عن عفوه ومغفرته، كما أنه لا غنى لأحد عن رحمته وكرمه، فنسأله سبحانه أن يشلمنا بعفوه، وأم يدخلنا في رحمته، وأن يستعملنا في طاعته، وأن يهدينا إليه صراطاً مستقيماً.
_______________________
(1) الأدب المفرد (رقم: 724)، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح الأدب (رقم: 557).
(2) سورة: الشورى، الآية (25).
التصنيف | الدعاء ليلة القدر |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |