عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ؛ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَانِ يَسْتَبَّانِ، فَأَحَدُهُمَا احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ، ذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ" (1).
يقول الله تعالى: {ٱدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} (1)
إن من الضوابط المهمة للدعاء أن يحذر المسلم أشد الحذر من الاعتداء فيه، والاعتداء هو تجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه، يقول الله تعالى: {ٱدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} (1)، فأرشد تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة عباده إلى دعائه الذي هو صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم، ثم نهاهم سبحانه في هذا السياق عن الاعتداء بإخباره أنه لا يحب المعتدين، فدل ذلك على أن الاعتداء مكروه له مسخوط عنده، لا يحب فاعله، ومن لا يحبه الله فأي خير ينال، وأي فضل يؤمل.
ثم إن النهي عن الاعتداء في الآية وإن كان عاماً يشمل كل نوع من الاعتداء، إلا أنه لمجيئه عقب الأمر بالدعاء يدل دلالة خاصة على المنع من الاعتداء في الدعاء والتحذير منه، وبيان أن الدعاء المشتمل على الاعتداء لا يحبه الله من عباده ولا يرضاه لهم؛ ولهذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ} قال: "في الدعاء ولا في غيره" (2).
وعن قتادة في معنى الآية قال: "اعلموا أن في بعض الدعاء اعتداء فاجتنبوا العدوان والاعتداء إن استطعتم ولا قوة إلا بالله".
_______________________
(1) سورة الأعراف، الآية: (55).
(2) تفسير الطبري (5/ 207).
وعن الربيع في معنى الآية قال: "إياك أن تسأل ربك أمراً قد نهيت عنه أو ما ينبغي لك".وعن ابن جريج في معنى الآية قال: "إن من الدعاء اعتداء يكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة" (1).
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن من الأمة من سيقع في الاعتداء في الدعاء، وهو صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بذلك أخبر به محذراً منه ناهياً عنه مبيناً لخطره، وهذا من تمام وكمال نصحه لأمته صلوات الله وسلامه عليه، وهو أيضاً من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وغيرهم عن عبد الله بن مغفل: أنه سمع ابنه يقول "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ! سَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنْ النَّارِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَالطَّهُورِ" (2).
_______________________
(1) تفسير الطبري (5/ 207).
(2) المسند (4/ 86، 87)، (5 /55)، وسنن أبي داود (رقم: 96)، وسنن ابن ماجه (رقم: 3864)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم: 87).وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أنه سَمِعَ ابْنًا لَهُ يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَنَعِيمَهَا وَإِسْتَبْرَقَهَا وَنَحْوًا مِنْ هَذَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا فَقَالَ: لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ خَيْرًا كَثِيرًا وَتَعَوَّذْتَ بِاللَّهِ مِنْ شَرٍّ كَثِيرٍ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَإِنَّ حَسْبَكَ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ" (1).
فأخبر صلوات الله وسلامه عليه أنه سيكون قوم من أمته يعتدون في الدعاء ناهياً عن ذلك، وليكون المسلمون في حيطة وحذر من الوقوع في شيء منه، ولا سبيل إلى السلامة من ذلك إلا بلزوم السنة واقتفاء آثار الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال عليه الصلاة والسلام: "فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" (2).
إن الاعتداء في الدعاء باب واسع، ومهيع فج؛ إذ هو كما تقدم تعريفه: تجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه، وعلى هذا فكل مخالفة للسنة ومفارقة للهدي النبوي الكريم في الدعاء يعد اعتداء، ومن المعلوم أن المخالفات متنوعة وكثيرة لا يجمعها نوع واحد، ثم هي أيضاً متفاوتة في خطورتها، فمن الاعتداء ما ق يبلغ حد الكفر، ومنه ما هو دون ذلك، فمن اعتدى في دعائه بأن دعا غير الله أو سأله أو طلب منه كشف ضره أو جلب نفعه أو شفاء مرضه أو نحو ذلك، فقد وقع في أعظم أنواع الاعتداء في الدعاء وأشدها
_______________________
(1) المسند (1/ 172)، وسنن أبي داود (رقم: 1480)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم: 1313).
(2) المسند (4/ 127)، وسنن أبي داود (رقم: 4607)، وسنن الترمذي (رقم: 2676)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (رقم: 2157).
خطراً، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُوا مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَٰفِلُونَ} (1)، وحاصل كلام المفسدين في معنى هذه الآية أن الله تعالى حكم بأنه لا أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة، ومعنى الاستفهام في الآية إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالاً ممن عبد غير الله ودعاه، حيث يترك دعاء السميع المجيب القدير، ويدعو من دونه الضغيف العاجز الذي لا قدرة له على الاستجابة، كما قال تعالى: {لَهُۥ دَعْوَةُ ٱلْحَقِّ ۖ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْءٍ إِلَّا كَبَٰسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ٱلْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَٰلِغِهِۦ ۚ وَمَا دُعَآءُ ٱلْكَٰفِرِينَ إِلَّا فِى ضَلَٰلٍۢ} (2). فهذا أخطر أنواع الاعتداء في الدعاء وأشدها ضرراً.قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فهؤلاء أعظم المعتدين عدواناً، فإن أعظم العدوان الشرك وهو وضع العبادة في غير موضعها، فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلاً في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (3).
_______________________
(1) سورة الأحقاف، الآية: (5).
(2) سورة الرعد الآية: (14).
(3) مجموع الفتاوى (15/ 23).
وأي اعتداء أعظم وأشد من هذا، أن يصرف العبد حق الله الخالص الذي لا يجوز أن يصرف لأحد سواه إلى مخلوق لا يملك لنفسه ضراً ولا رشداً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فضلاً عن أن يملك شيئاً من ذلك لغيره، قال الله تعالى: {وَٱتَّخَذُوا مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْـًٔا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَوٰةً وَلَا نُشُورًا} (1)، وقال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ فَٱدْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ} (2)، وقال تعالى: {قُلِ ٱدْعُوا ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ ۖ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍۢ فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍۢ وَمَا لَهُۥ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍۢ} (3).وما من ريب أن هذا هو أعظم العدوان وأشد الانحراف والطغيان، نسأل الله العافية والسلامة.
_______________________
(1) سورة الفرقان: الآية: (3).
(2) سورة الأعراف، الآية: (194).
(3) سورة سبأ، الآية: (22).
التصنيف | التحذير من الاعتداء في الدعاء |
المصدر | الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ |
عدد المشاهدات | 0 |