التصنيفات

يقول الله تعالى: {وَيَدْعُ ٱلْإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلْخَيْرِ ۖ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا} (1)، أي: يسارع إلى طلب ما يخطر بباله، متعامياً عن ضرره وسوء عواقبه

إن من الأمور المهمة التي ينبغي أن يراعيها المسلم في دعائه أن يكون متبصراً بما يدعو به ويطلبه من ربه سبحانه وتعالى، غير مستعجل ولا متسرع فيما يطلب ويسأل، بل ينبغي أن يتدبر في أموره حق التدبر؛ ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به، وما هو شر جدير بالاستعاذة منه، وذلك أن كثيراً من الناس عند غضبه وتضجره وحصول الأمور المزعجة له قد يدعو على نفسه أو ولده أو ماله بما لا يسره تحققه وحصوله، وهذا ناشيء عن تسرع الإنسان وعجلته وعدم نظره في العواقب، يقول الله تعالى: {وَيَدْعُ ٱلْإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلْخَيْرِ ۖ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا} (1)، أي: يسارع إلى طلب ما يخطر بباله، متعامياً عن ضرره وسوء عواقبه، وإنما يحمل الإنسان على ذلك عجلته وقلقه، ولهذا قال تعالى: {وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا}.

وإن من أبلغ ما يكون خطراً وأشد ما يكون ضرراً في هذا المقام الدعاء على النفس بالهلاك أو العذاب أو دخول النار أو الحرمان من دخول الجنة أو نحو ذلك، وهذا لا يفعله إلا من بلغ الغاية في السفه والنهاية في الغي، كما حكى الله ذلك عن الكفار المعرضين عن دعوة الرسل المعارضين لدعوتهم، كقولهم: {ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍۢ} (2)، وقولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ} (3)، إلى غير ذلك مما حكى الله عنهم، مما يدل على تمام جهلهم، وعظم غيهم وسفههم، وشدة إعراضهم وصدودهم.
_______________________
(1) سورة الإسراء، الآية: (11).
(2) سورة الأنفال، الآية: (32).
(3) سورة الأعراف، الآية (70).

وقوله تعالى: {وَيَدْعُ ٱلْإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلْخَيْرِ ۖ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا} (1) يحتمل أن المراد بالإنسان القائل هذه المقالة هو الكافر، أي: يدعو على نفسه بالشر والهلاك واستعجال العقوبة والعذاب دعاءه بالخير، كما تقدمت الأمثلة على ذلك.

ويحتمل أن المراد بالإنسان هنا الجنس؛ لوقوع هذا الدعاء من بعض أفراده، وهو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر والغضب بما لا يجب أن يستجاب له فيه (2).

قال ابن كثير رحمه الله في معنى الآية: "يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله بالشر، أي بالموت أو الهلاك أو الدمار أو اللعنة أو نحو ذلك، فلو استجاب    له ربه لهلك بدعائه كما قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُم بِٱلْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ        أَجَلُهُمْ ۖ} (3). . ." (4).

وقد  جاء في هذا المعنى آثار عديدة عن السلف، منها ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقوله: {وَيَدْعُ ٱلْإِنسَٰنُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُۥ بِٱلْخَيْرِ ۖ وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا} (5)، يعني قول الإنسان: اللهم العنه واغضب عليه، فلو يُعجل له كما يعجل له الخير لهلك".
_______________________
(1) سورة الإسراء: الآية: (11).
(2) انظر: فتح القدير للشوكاني (3/ 211).
(3) سورة يونس، الآية: (11).
(4) تفسير القرآن العظيم (5/ 45- 46).
(5) سورة الإسراء، الآية: (11).

وقال قتادة في معنى الآية: "أي: يدعو على ماله فيلعن ماله وولده، ولو استجاب الله له لأهلكه".

وقال مجاهد: "ذلك دعاء الإنسان بالشر على ولده وعلى امرأته، فيعجل فيدعو عليه، ولا يحب أن يصيبه". أخرج هذه الآثار ابن جرير في تفسيره (1).

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: "ذلك دعاء الإنسان بالشر على ولده وعلى امرأته، يغضب أحدهم فيدعو عليه، فيسب نفسه ويسب زوجته وماله وولده، فإن أعطاه الله ذلك شق عليه، فيمنعه ذلك، ثم يدعو بالخير فيعطيه" (2).

ومن رحمة الله بعباده أنه لا يستجيب لهم في دعائهم بالشر حال غضبهم وضجرهم كاستجابته لهم في دعائهم بالخير؛ رحمة منه وإحساناً، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُم بِٱلْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ۖ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ} (3).
_______________________
(1) جامع البيان (9/ 47-48).
(2) انظر: الدر المنثور (5/ 246).
(3) سورة يونس، الآية: (11).

قال ابن كثير رحمه الله: "يُخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم في حال ضجرهم وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفاً ورحمة، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو اموالهم وأولادهم بالخير والبركة والنماء، ولهذا قال: {وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُم بِٱلْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ۖ }، أي: لو استجاب لهم كلما دعوه به في ذلك لأهلكهم، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك" (1).

فالواجب على المسلم أن يحذر تمام الحذر ولا سيما حال غضبه وتضجره من أن يدعو على نفسه أو ماله أو ولده باللعنة أو العذاب أو النار أو نحو ذلك مما لا يسره تحققه، وذلك أن مقصود الدعاء جلب النفع ودفع الضر، وأما الدعاء على النفس أو المال أو الولد فليس فيه أي منفعة، بل هو ضرر محض ووبال وهلاك.

روى مسلم في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: :سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ بَطْنِ بُوَاطٍ وَهُوَ يَطْلُبُ الْمَجْدِيَّ بْنَ عَمْرٍو الْجُهَنِيَّ وَكَانَ النَّاضِحُ [وهو البعير الذي يستقى عليه] يَعْقُبُهُ مِنَّا الْخَمْسَةُ وَالسِّتَّةُ وَالسَّبْعَةُ فَدَارَتْ عُقْبَةُ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ [أي جاءت نوبته في الركوب]، فَأَنَاخَهُ فَرَكِبَهُ ثُمَّ بَعَثَهُ فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ [أي تلكأ وتوقف] فَقَالَ لَهُ شَأْ لَعَنَكَ اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ انْزِلْ عَنْهُ فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلَا 
_______________________
(1) تفسير القرآن العظيم (4/ 188).

تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ" (1).

وفي هذا الحديث دلالة على أن ذلك قد يستجاب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ"، وثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ"، رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما بإسناد صحيح.

ولهذا ينبغي على المسلم أن يعود نفسه الدعاء لنفسه وولده وماله بالخير والنماء والبركة والصلاح ونحو ذلك، وأن يملك نفسه ولا سيما عند غضبه من أن يدعو على نفسه أو ولده أو ماله بالهلاك أو الشر أو الفساد، فقد يستجاب له في ذلك فيندم ويتحسر، مع أنه هو الذي دعا بذلك وطلبه، وإنا لنرجو الله أن يهدينا جميعاً سواء السبيل وأن يوفقنا لكل خير يحبه ويرضاه في الدنيا والآخرة.
_______________________
(1) صحيح مسلم (3004).
(2) سنن أبي داود (رقم: 1536)، وسنن ابن ماجه (رقم: 3862)، وسنن الترمذي (رقم: 1905)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم: 596).

التصنيف خطورة الدعاء على النفس أو الغير
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0