التصنيفات

قال الله تعالى لما ذكر من ذكره من الأنبياء: {أُولَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۦنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍۢ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْرَٰٓءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُ ٱلرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩ ۩} (1)

سبق الحديث عما أحدثه بعض الناس في الذكر والدعاء من السماعات المحدثة، والتعبد لله باتخاذ أراجيز وأشعار أوراداً لهم، فجنى عليهم ذلك جنايات بالغة، وأفسد عليهم مسلكهم، وصدهم عن الذكر القويم والدعاء السليم الوارد في هدي سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

والواجب على كل مسلم أن يفرق لبن السماع الذي ينتفع به في الدين المتقرر في شرع رب العالمين، وبين السماعات المحدثة التي أنشأها واخترعها بعض الناس على وفق أهوائهم.

فأما السماع الذي شرعه الله تعالى لعباده وكان سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم وزكاة نفوسهم، فهو سماع آيات الله تعالى، وهو سماع النبيين والمؤمنين وأهل العلم، قال الله تعالى لما ذكر من ذكره من الأنبياء: {أُولَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۦنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍۢ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَٰهِيمَ وَإِسْرَٰٓءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَٱجْتَبَيْنَآ ۚ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُ ٱلرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩ ۩} (1)، وقال تعالى {إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتْهُمْ إِيمَٰنًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2)، وقال تعالى: { قُلْ ءَامِنُوا بِهِۦٓ أَوْ لَا تُؤْمِنُوٓا ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِۦٓ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَٰنَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا  وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ۩ ۩} (3)،
_______________________
(1) سورة مريم، الآية: (58).
(2) سورة الأنفال، الآية: (2).
(3) سورة الإسراء، الآيات: (107- 109).

وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ ٱلْحَقِّ ۖ} (1).

وبهذا السماع أمر الله تعالى عباده كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ ٱلْقُرْءَانُ فَٱسْتَمِعُوا لَهُۥ وَأَنصِتُوا    لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2)، وعلى أهله أثنى كما في قوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُۥٓ ۚ} (3)، وقال في الآية الأخرى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا ٱلْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ ٱلْأَوَّلِينَ} (4)، فالقول الذي أمروا بتدبره هو القول الذي أمروا باستماعه، وقد قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءَانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} (5)، وقال تعالى: {كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ مُبَٰرَكٌ لِّيَدَّبَّرُوٓا ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا ٱلْأَلْبَٰبِ} (6). 

وكما أثنى الله على هذا السماع ذم المعرضين عنه فقال: {وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَٰتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِىٓ أُذُنَيْهِ وَقْرًا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (7)، وقال تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (8)،
_______________________
(1) سورة المائدة، الآية: (83).
(2) سورة الأعراف، الآية: (204).
(3) سورة الزمر، الآيات: (17- 18).
(4) سورة المؤمنون، الآية: (67).
(5) سورة محمد، الآية: (24).
(6) سورة ص، الآية: (29).
(7) سورة لقمان، الآية: (7).
(8) سورة فصلت، الآية: (26).

وقال تعالى: {وَقَالَ ٱلرَّسُولُ يَٰرَبِّ إِنَّ قَوْمِى ٱتَّخَذُوا هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ مَهْجُورًا وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ ۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (1). وقال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} (2)، وقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِىٓ أَكِنَّةٍۢ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِىٓ ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنۢ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (3)، وقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىٓ ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ} (4).

فهذا هو السماع الذي شرعه الله لعباده، ورتب لهم عليه الأجور الكثيرة والخيرات العظيمة في الدنيا والآخرة، وعلى هذا السماع كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون، فكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقون يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا أبا موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ وهم يسمعون" (5)، وهذا هو السماع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهده مع أصحابه ويستدعيه منهم، كما في الصحيح عن عبد الله بن مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ 
_______________________
(1) سورة الفرقان، الآيات: (30- 31).
(2) سورة المدثر، الآية: (49- 51).
(3) سورة فصلت، الآية: (5).
(4) سورة الإسراء، الآيات: (45- 46).
(5) رواه ابن سعد في الطبقات (4/ 109)، وأورده الذهبي في السير (2/ 398).

النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (1) قال: حسبك، فنظرت فإذا عيناه تذرفان" (2).

فهذا هو سماع أهل الإيمان الذي من سمعه وآمن به واتبعه اهتدى وأفلح، ومن أعرض عنه شقي وضل، ثم إن له من الآثار الإيمانية والمعارف القدسية والأحوال الزكية والنتائج المحمودة في الدنيا والآخرة ما لا يعد ولا يحصى.

وأما سماع المكاء والتصدية، وهو التصفيق بالأيدي والصفير ونحوه، فهذا هو سماع المشركين الذي ذكره الله تعالى في قوله: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلَّا مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ۚ} (3)، فأخبر عنهم أنهم كانوا يتخذون التصفيق باليد، والتصويت بالفم قربة وديناً، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجتمعون على مثل هذا السماع ولا حضروه، ولم يكن في القرون الثلاثة المفضلة من أهل الدين والصلاح والعبادة من يجتمع على مثل هذا المكاء والتصدية، لا بدف ولا بكف ولا بقضيب، وإنما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية، فلما رآه الأئمة أنكروه، وقد مر قول الإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهما الله في ذلك، فمن فعل هذه الأمور على وجه الديانة والتقرب إلى الله عز وجل فلا ريب في ضلالته وجهالته وانحرافه عن الصراط المستقيم.
_______________________
(1) سورة النساء، الآية: (41).
(2) صحيح البخاري (رقم: 4582)، وصحيح مسلم (رقم: 800).
(3) سورة الأنفال، الآية: (35).

وأما إذا فعلها الإنسان على وجه التمتع واللعب، فمذهب الأئمة الأربعة لأن آلات اللهو كلها حرام، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحر والحرير والخمر والمعازف (1)، والمعازف هي الملاهي، جمع معزفة، وهي الآلة التي يعزف بها، أي يصوت بها، ولا خلاف بين أهل العلم وأئمة السلف في تحريم ذلك (2).

وينبغي أن يعلم أن ثمة فرقاً بين من يفعل هذه الأمور على وجه اللهو واللعب، وبين من يفعلها على وجه التدين والتعبد، فإن الأول يفعل ذلك  وهو لا يعده من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب، بل ربما كان يفعله وهو يشعر بالذنب والخطأ، أما من فعله على وجه التقرب والتعبد، وأنه طريق إلى الله تعالى، فإنه يتخذه ديناً، وإذا نهي عنه كان كمن ينهي عن دينه، ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه، فهؤلاء ضلال باتفاق المسلمين، وهذا الأمر أحب إلى إبليس من الأول؛ لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب، والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب، فالبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، حمانا الله وإياكم منه، وهدانا إلى صراطه المستقيم.
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 5590).
(2) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/ 557- 586).

التصنيف الفرق بين السماع المشروع والسماع المحدث
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0