التصنيفات

حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ فَدَعَا عَلَى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَأَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى قَدْ غَيَّرَتْهُمْ الشَّمْسُ وَكَانَ يَوْمًا   حَارًّا" (1).

إن من آداب الدعاء أن يستقبل الداعي القبلة وقت دعائه، ذلك أن القبلة هي الجهة الفاضلة التي أمر المسلمون بالاتجاه إليها في عبادتهم، فكما أنها قبلة للمسلمين في الصلاة فهي قبلة لهم في الدعاء، وقد ثبت استقبال النبي صلى الله عليه وسلم للقبلة عند دعائه في أحاديث عديدة.

من ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ فَدَعَا عَلَى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَأَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى قَدْ غَيَّرَتْهُمْ الشَّمْسُ وَكَانَ يَوْمًا   حَارًّا" (1).

وخرج مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ نَظَرَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَبِضْعَةُ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِنِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ مِنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبَّكَ إِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (2)
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 3960)، وصحيح مسلم (3/ 1420).
(2) سورة الأنفال، الآية: (9).

فَأَمَدَّهُمْ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ" (1).

وخرج البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هَذَا الْمُصَلَّى يَسْتَسْقِي فَدَعَا وَاسْتَسْقَى ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ" (2).

وثبت كذلك استقبال القبلة في الدعاء في الحج على الصفا والمروة وفي عرفة وعند المشعر الحرام وعند الجمرة الأولى والثانية، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على مشروعية استقبال القبلة وقت الدعاء، وأن ذلك أفضل وأكمل للداعي، وعلى أن ذلك ليس لازما ولا واجباً في الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه دعا وهو غير مستقبل القبلة، وقد عقد الإمام البخاري في كتاب الدعوات من صحيحه باباً بعنوان "الدعاء غير مستقبل القبلة"، وخرج فيه حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا فَتَغَيَّمَتْ السَّمَاءُ وَمُطِرْنَا حَتَّى مَا كَادَ الرَّجُلُ يَصِلُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَلَمْ تَزَلْ تُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا فَقَدْ غَرِقْنَا فَقَالَ اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَقَطَّعُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَلَا يُمْطِرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ" (3)، ومعلوم أن الخطيب وقت الخطبة يكون معطياً القبلة ظهره، فهذا فيه دلالة على أن استقبال القبلة ليس شرطاً في الدعاء، لكنه هو الأولى والأكمل، قال شيخ الإسلام: "ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء يستقبلها كما فعله في أثناء الاستسقاء الذي 
_______________________
(1) صحيح مسلم (رقم: 1763).
(2) صحيح البخاري  (رقم: 1023، 6343)، وصحيح مسلم (رقم: 894).
(3) صحيح البخاري (رقم: 6342).

رفع فيه يديه رفعاً تاماً، فعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ بِالنَّاسِ يَسْتَسْقِي فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَاسْتَسْقَى وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ" (1)، رواه الجماعة أهل الصحاح والسنن والمسانيد، كالبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم، فأخبر أنه استقبل القبلة التي هي قبلة الصلاة في أثناء دعاء الاستسقاء" (2).

وقال رحمه الله: "إن المسلمين مجمعون على أن القبلة التي يشرع للداعي استقبالها حين الدعاء هي القبلة التي شرع استقبالها حين الصلاة، فكذلك هي التي شرع استقبالها حين ذكر الله كما تستقبل بعرفة والمزدلفة وعلى الصفا والمروة، وكما يستحب لكل ذاكر لله وداع أن يستقبل القبلة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان قد يقصد أن يستقبل القبلة حين الدعاء، كذلك هي التي يشرع استقبالها بتوجه الميت إليها، وتوجيه النسائك والذبائح إليها، وهي التي يًنهى عن استقبالها بالبول والغائط، فليس للمسلمين بل ولا لغيرهم قبلتان أصلاً في العبادات التي هي من جنسين كالصلاة والنسك فضلاً        عن العبادات التي هي من جنس واحد وبعضها متصل ببعض، فإن الصلاة فيها الدعاء في الفاتحة وغيرها، والدعاء نفسه هو الصلاة، قد سماه الله في كتابه صلاة حيث قال: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ} (3)، وفي الصحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ صَلَّى عليهم، وإن أبي أتاه بصدقة فَقَالَ: 
_______________________
(1) انظر: صحيح البخاري (رقم: 1024).
(2) انظر: نقض التأسيس لابن تيمية (2/ 459).
(3) سورة التوبة، الآية: (103).

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى (1)، وقد قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2)، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته الصلاة عليه في غير حديث في الصحاح وغيرها، وفي جميعها إنما يعلمها الدعاء له بصلاة الله وبركاته. . . " إلى آخر كلامه رحمه الله (3).

وقد ذكر ذلك في سياق رده على من ينكر علو الله كالجهمية ومن تأثر بهم من أهل الأهواء حيث يزعمون أن رفع الأيدي في الدعاء إلى العلو إنما يشرع لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، فجعلوا بذلك قبلتين للمسلمين قبلة للدعاء وهي السماء، وقبلة للصلاة وهي الكعبة، وقد ألجأهم إلى هذا التقرير الفاسد إنكارهم لعلو الرب تبارك وتعالى على خلقه، وتعسفهم في حمل النصوص الكثيرة الدالة على علو الله على غير وجهها ومرادها بأنواع من التأويلات، وصنوف من التحريفات التي هي في الحقيقة نوع من الإلحاد في آيات الله وأسمائه وصفاته، والله يقول: {وَذَرُوا ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىٓ أَسْمَٰٓئِهِۦ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4)، ويقول: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىٓ ءَايَٰتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ ۗ } (5)، وقد بين رحمه الله في سياق رده عليهم: أن القبلة هي ما يستقبله الإنسان بوجهه، والاستقبال ضد الاستدبار، فالقبلة ما يستقبله الإنسان ولا يستدبره، فأما ما يرفع الإنسان إليه يده أو رأسه أو بصره فهذا باتفاق
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 1497)، وصحيح مسلم (رقم: 1078).
(2) سورة الأحزاب، الآية: (56).
(3) نقض التأسيس (2/ 452- 453).
(4) سورة الأعراف، الآية: (180).
(5) سورة فصلت، الآية: (40).

الناس لا يسمى قبلة؛ لأن الإنسان لن يستقبله كما لا يستدبر الجهة التي تقابله، ومن استقبل شيئاً فقد استدبر ما يقابله كما أن من استقبل الكعبة فقد استدبر ما يقابلها، ومعلوم أن الداعي لا يكون مستقبلاً للسماء ومستدبراً للأرض، بل يكون مستقبلاً لبعض الجهات إما القبلة أو غيرها، مستدبراً لما يقابلها كالمصلي، فظهر أن جعل ذلك قبلة باطل في العقل واللغة والشرع بطلاناً ظاهراً لكل أحد (1).

والمقصود أن قبلة المسلمين في الدعاء هي قبلتهم في الصلاة، أما رفعهم لأيديهم عند الدعاء إلى السماء فلان ربهم الذي يدعونه ويسألونه ويرجونه ويطمعون في نيل ثوابه ورحمته ويخافون في سمائه مستو على عرشه، بائن من خلقه، يسمع دعاءهم ويجيب نداءهم، كما قال سبحانه: {ٱلرَّحْمَٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ لَهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ ٱلْأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ} (1).
_______________________
(1) انظر: نقض التأسيس (2/ 462).
(2) سورة طه، الآيات: (5-8).

التصنيف استقبال الداعي القبلة
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0