التصنيفات

جاء في الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ"، رواه الترمذي، والحاكم، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسنده حسن (1).

تقدم معنا ذكر ثلاثة آداب للدعاء عظيمة، وهي أن يقدم العبدُ بين يدي دعائه توبة من ذنوبه وخطاياه، وأن يكون دعاؤه لربه في حال تضرع وخشوع وخضوع، وأن يلح على الله في الدعاء ويكثر من سؤاله دون سآمة أو ملل، وهذه جملة أخرى من آداب الدعاء التي ينبغي أن يعتني بها المسلم.

فمن آداب الدعاء المهمة أن لا يقتصر المسلم على دعائه ربه في حال الشدة فقط، بل الواجب أن يدعو ربه في سرائه وضرائه، وشدته ورخائه، وصحته وسقمه، وفي أحواله كلها، وملازمة المسلم للدعاء حال الرخاء، ومواظبته عليه في حال السراء سبب عظيم لإجابة دعائه عند الشدائد والمصائب والكرب، وقد جاء في الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ فَلْيُكْثِرْ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ"، رواه الترمذي، والحاكم، وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسنده حسن (1).
_______________________
(1) سنن الترمذي (رقم: 3382)، والمستدرك (1/544)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 6290).

وقد ذم الله المشركين في مواطن كثيرة من كتابه العزيز بأنهم لا يلجأون إلى الله ولا يُخلصون الدين إلا في حال شدتهم، أما في حال رخائهم ويسرهم وسرائهم، فإنهم يشركون مع الله غيره، ويقبلون على أوثان لا تملك لهم شيئاً ولا تنفعهم ولا تضرهم، فيستنجدون بها ويستغيثون بها وينزلون بها حاجاتهم وطلباتهم، يقول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ ٱلْإِنسَٰنَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُۥ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُۥ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُوٓا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا} (1)، ويقول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ ٱلْإِنسَٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنۢبِهِۦٓ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُۥ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّۢ مَّسَّهُۥ ۚ} (2)، ويقول تعالى: {فَإِذَا مَسَّ ٱلْإِنسَٰنَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَٰهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ} (3)، ويقول تعالى: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلْإِنسَٰنِ أَعْرَضَ وَنَـَٔا بِجَانِبِهِۦ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍۢ} (4)، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل دلالة واضحة على ذلك من لا يعرف الله إلا في ضرائه وشدته، أما في حال رخائه فإنه يكون في صدود وإعراض ولهو وغفلة وعدم إقبال على الله تبارك وتعالى.

ولهذا فإن الواجب على المسلم أن يقبل على الله في أحواله كلها في اليسر والعسر، والرخاء والشدة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، ومن تعرف على الله في الرخاء عرفه الله في الشدة، فكان له معيناً وحافظاً ومؤيداً وناصراً.
_______________________
(1) سورة الزمر، الآية: (8).
(2) سورة يونس، الآية: (12).
(3) سورة الزمر، الآية: (49).
(4) سورة فصلت: الآية: (51).

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما المشهور: "تَعَرَّفْ إِلَى الله فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ" (1).

قال ابن رجب رحمه الله في جزء له أفرده في شرح هذا الحديث: "المعنى أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه وصحته، فقد تعرف بذلك إلى الله، وكان بينه وبينه معرفة، فعرفه ربه في الشدة، وعرف له عمله في الرخاء، فنجاه من الشدائد بتلك المعرفة. . . وهذا التعرف الخاص هو المشار إليه في الحديث الإلهي "لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ - إلى أن قال- وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ" (2)" (3).

ثم أورد عن الضحاك بن قيس أنه قال: "اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس عليه السلام كان يذكر الله، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: {فَلَوْلَآ أَنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِۦٓ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (4)، وإن فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله، فلما أدركه الغرق قال: آمنت، فقال الله تعالى: {ءَآلْـَٰٔنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ} (5) "، فمن لم يتعرف إلى الله في الرخاء فليس له أن يعرفه في الشدة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
_______________________
(1) المسند (1/ 307)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 2961).
(2) صحيح البخاري (رقم: 6502).
(3) نور الاقتباس لابن رجب (ص: 43).
(4) سورة الصافات، الآيتان: (143- 144).
(5) سورة يونس، الآية: (91).

قال رجل لأبي الدرداء: "أوصني، فقال: اذكر الله في السراء يذكرك الله عز وجل في الضراء" (1).
وعنه رضي الله عنه أنه قال: "ادع الله في يوم سرائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك" (2).

وإن من التعرف على الله في الرخام أن يجتهد العبد في حال رخائه بالتقرب إلى الله وطلب مرضاته، والإكثار من الأعمال الصالحة المقربة إليه، كالبر والصلة، والصدقة والإحسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من وجوه البر وسبل الخير "وحديث الثلاثة الذين دخلوا الغار وانطبقت عليهم الصخرة يشهد لهذا، فإن الله فرج عنهم بدعائهم بما كان منهم من الأعمال الصالحة الخالصة في حال الرخاء من بر الوالدين، وترك الفجور، والأمانة الخفية" (3).
_______________________
(1) حلية الأولياء (1/ 209).
(2) المصنف لعبد الرزاق (11/ 180)، وشعب الإيمان للبيهقي (2/ 52)، وانظر: جامع العلوم والحكم (1/ 475 - 476).
(3) نور الاقتباس لابن رجب (ص: 46).

وحديث هؤلاء مشهور خرجه الإمام البخاري في مواطن عديدة من صحيحه، وخرجه مسلم وغيرهما من الأئمة، ولفظ الحديث في باب: حديث الغار من كتاب: أحاديث الأنبياء من صحيح البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ وَأَنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ لَهُ اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَسُقْهَا فَقَالَ لِي إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ فَقُلْتُ لَهُ اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ فَسَاقَهَا فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ فَكُنْتُ آتِيهِمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِمَا لَيْلَةً فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ فَكُنْتُ لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا فَقَالَتْ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ الْمِائَةَ دِينَارٍ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا" (1). 

فكانت أعمال هؤلاء الثلاثة الصالحة سبباً لتفريج همهم وكشف كربتهم وإجابة دعوتهم وتحقيق أملهم ورجائهم، فلما تعرف إلى ربهم في حال رخائهم، تعرف إليهم ربهم سبحانه في حال شدتهم، فأمدهم بعونه، وأحاطهم بحفظه، وكلأهم برعايته وعنايته، وهو وحده الموفق والمعين لا شريط له.
_______________________
(1) صحيح البخاري (3465).

التصنيف تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0