التصنيفات

ثبت في الحديث المتواتر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" (3).

إن الله عز وجل لما شرع لعباده الدعاء ورغبهم فيه وحثهم عليه ووعدهم عليه الإجابة تفضلاً منه سبحانه وتكرماً؛ هيأ لهم مع ذلك أمكنة فاضلة وأزمنة فاضلة، وآداباً عظيمة يكون حظ العبد ونصيبه من القبول والإجابة بحسب حظه ونصيبه من تحقيق تلك الأمور وعنايته بها.

ومن الأوقات الفاضلة التي يحسن بالمسلم أن يتحرى دعاء الله فيها وقت السحر حين يبقى ثلث الليل الأخير، قال الله تعالى: {وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلْأَسْحَارِ} (1)، وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ  وَبِٱلْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (2)، وثبت في الحديث المتواتر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ" (3).

وهذا الحديث العظيم يدل على شرف هذا الوقت عند الله وعظم شأنه عنده، وأنه سبحانه لكمال إحسانه وتمام لطفه ينزل في ذلك الوقت هو سبحانه بنفسه إلى سماء الدنيا نزولاً حقيقياً يليق به سبحانه، لا يشبه نزول المخلوقين تعالى الله وتنزه عن ذلك، ولا يدرك أحد من المخلوقين كيفية نزول سبحانه؛ إذ إن كيفية صفاته سبحانه مجهولة للخلق، كما أن كيفية ذاته مجهولة لهم، وليس لأحد أن يخوض في شيء من صفات الله - لا النزول ولا غيره - بتحريف أو تعطيل، أو تكييف أو تمثيل.
_______________________
(1) سورة آل عمران، الآية: (17).
(2) سورة الذاريات، الآيات: (17- 18).
(3) صحيح البخاري (رقم: 1145)، (6321)، (7494)، وصحيح مسلم (رقم: 758).

والحديث دليل على فضل هذا الوقت المبارك، وأنه أفضل أوقات الدعاء والاستغفار والإقبال على الله بالسؤال، وأن الدعاء في ذلك الوقت مستجاب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والناس في آخر الليل يكون في قلوبهم من التوجه والتقرب والرقة ما لا يوجد في غير ذلك الوقت، وهذا مناسب لنزوله إلى سماء الدنيا، وقوله: هل من داعٍ، هل من سائل، هل من تائب" (1). اهـ كلامه رحمه الله.

ومن الأوقات الفاضلة التي يستجاب فيها الدعاء الساعة التي في يوم الجمعة، فقد ثبت في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: "فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا" (2).

وقد اختلف أهل العلم في تعيين هذه الساعة على أقوال عديدة تقارب الأربعين قولاً، إلا أن أقواها وأقربها للدليل قولان:
_______________________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 130- 131).
(2) صحيح البخاري (رقم: 935)، وصحيح مسلم (رقم: 852).

أحدهما: أنها ما بين جلوس الإمام على المنبر إلى حين فراغه من الصلاة، وحجة هذا القول حديث أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ شَيئاً؟ قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ" (1).

والقول الثاني: أنها بعد العصر إلى غروب الشمس، ومن أدلة هذا القول ما رواه أحمد وابن ماجه في سننه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: قُلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ (يعني التوراة) فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا قَضَى لَهُ حَاجَتَهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَشَارَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ فَقُلْتُ: صَدَقْتَ أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ قُلْتُ أَيُّ سَاعَةٍ هِيَ؟ قَالَ: هِيَ آخِرُ سَاعَاتِ النَّهَارِ قُلْتُ إِنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ قَالَ: بَلَى إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا صَلَّى ثُمَّ جَلَسَ لَا يُجْلسُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فَهُوَ فِي صَّلَاةِ" (2).

قال الحافظ ابن حجر وقد سرد الأقوال: "ولا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى وحديث عبد الله بن سلام" (3) اهـ. 

ورجح ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد القول الثاني، وهو أنها بعد صلاة العصر، واحتج بحديث عبد الله بن سلام المتقدم وأحاديث أخرى وردت في الباب (4).
_______________________
(1) صحيح البخاري (رقم: 853).
(2) المسند (5/ 451)، وسنن ابن ماجه (رقم: 1139)، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "حديث صحيح، وظاهر سياقه الرفع". نتائج الأفكار (2/ 410).
(3) فتح الباري (2/ 421).
(4) زاد المعاد (1/ 390- 391).

ومن الأزمنة الفاضلة شهر رمضان المبارك، ولا سيما العشر الأواخر منه، وخاصة ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وقد ثبت في الترمذي وغيره عن أم المؤمنين عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنِّي عَلِمْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَقُول فِيها، قَالَ قُولِي: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" (1).

ومن الأوقات الفاضلة أيضاً والتي ينبغي للمسلم أن يتحرى فيها الدعاء يوم عرفة، فهو يوم فاضل تستجاب فيها الدعوات وتغفر فيها الزلات وتكفر فيه الخطيئات، وقد ثبت في الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (2).

ومن الأوقات التي يرجى فيها قبول الدعاء ما بين الأذان والإقامة لما ثبت عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: "الدُّعَاءَ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَادْعُوا" أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وغيرهم (3).
_______________________
(1) سنن الترمذي (رقم: 3513)، وسنن ابن ماجه (رقم: 3850) وصححه الترمذي والألباني في تخريج المشكاة (رقم: 2091).
(2) سنن الترمذي (رقم: 3585)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (4/ 7، 8) بمجموع الطرق والشواهد.
(3) المسند (3/ 119، 155)، وسنن الترمذي (رقم: 212)، وسنن أبي داود (رقم: 521)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (رقم: 3408).

وثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الدُّعَاءَ لَا يُرَدُّ عند النداء للصلاة، وذلك فيما رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَانِ لَا تُرَدَّانِ أَوْ قَلَّمَا تُرَدَّانِ الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ وَعِنْدَ الْبَأْسِ حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا" (1).

ومما ينبغي للمسلم أن يتحرى فيه الدعاء أدبار الصلوات المكتوبة، ففي الترمذي وغيره بسند جيد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: جَوْفَ اللَّيْلِ الْآخِرِ وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ" (2). 

وأوصى صلوات الله وسلامه عليه معاذ بن جبل أن يقول فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ" (3)، ودبر الصلاة المذكورة في هذا الحديث والذي قبله يحتمل قبل السلام وبعده، قال ابن القيم رحمه الله: وكان شيخنا - يعني ابن تيمية رحمه الله - يرجح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه، فقال: دبر كل شيء منه كدبر الحيوان" (4).

وبالله التوفيق.
_______________________
(1) سنن أبي داود (رقم: 3540) والمستدرك (1/ 198)، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "حديث حسن صحيح". نتائج الأفكار (1/ 381).
(2) سنن الترمذي (رقم: 3499)، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (رقم: 2782).
(3) المسند (5/ 244)، وسنن أبي داود (رقم: 1522)، وصحيح ابن حبان (رقم: 2020)، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (رقم: 1347).
(4) زاد المعاد (1/ 305).

التصنيف أوقات يستجاب فيها الدعاء
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0