التصنيفات

روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (1)، قال: "هذه أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ" (2).

لقد تقدم معنا الكلام على التوسل وبيان معناه الصحيح الثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك سبق الإشارة إلى وجود جملة من المفاهيم الخاطئة والتقريرات الفاسدة شاعت بين بعض الناس ظنوها من التوسل المشروع المقرب إلى الله عز وجل، وربما أيضاً حمل بعضهم حبهم للأولياء والصالحين على تعظيمهم تعظيماً غير مشروع بالاستغاثة بهم، ودعائهم من دون الله، وإنزال الحاجات بهم، وتسمية ذلك توسلاً.

إن من الواجب على المسلم في هذا الباب العظيم أن يعرف للأولياء والصالحين قدرهم ومكانتهم ومنزلتهم دون أن يحمله ذلك على الغلو فيهم؛ إذ إن الغلو في الأولياء والصالحين أصل الشرك وسببه في قديم الزمان وحديثه، لقرب الشرك بهم من النفوس، فإن الشيطان يظهر ذلك في قالب المحبة والتعظيم والاحترام والتوقير للأولياء والصالحين.

روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (1)، قال: "هذه أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ" (2).
_______________________
(1) سورة نوح، الآية: (23).
(2) صحيح البخاري (رقم: 4920).

وبهذا يتبين أن الشيطان يتنقل بهؤلاء في طريق الباطل عبر مراتب عديدة، ودرجات متنوعة إلى أن يصل بهم إلى غاية الباطل ومنتهاه، فيبدأ معهم عدو الله أولاً بدعوتهم إلى تعظيم الصالحين تعظيماً مبتدعاً بالبناء على قبورهم أو اتخاذ تصاوير لهم أو نحو ذلك، فإذا فعلوا ذلك نقلهم إلى ما هو أعظم من ذلك، وهو الإقسام على الله بهم، وشأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يُسأل بأحد من خلقه، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم من ذلك إلى دعائهم وعبادتهم وسؤالهم الشفاعة من دون الله واتخاذ قبورهم أوثاناً يعكف عليها، وتعلق عليها القناديل والستور، ويطاف بها وتستلم وتقبل ويحج إليها ويذبح عندها، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادتها واتخاذها عيداً ومنسكاً ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى التحذير ممن ينهى عن ذلك ووصفه بأنه يتنقص الصالحين ويحط من أقدارهم ولا يعظمهم ونحو ذلك، ومعلوم أن ذلك ليس من التعظيم في شيء؛ بل من البهتان المبين والكفر الصريح والضلال العظيم.

إن باب التعظيم عندنا لا يضبط بالضوابط الشرعية، ولا يتقيد فيها بنصوص الكتاب والسنة يوقع الإنسان في صنوف من الخطأ وأنواع من الضلال، يتوهم أنها من التعظيم وليست كذلك، والشرع المطهر قد دل على مشروعية تعظيم الأنبياء والأولياء والصالحين في حدود معينة، دون رفع لهم عن منزلتهم التي أنزلهم الله إياها، فمن عظمهم بغير ما حد في الشرع وأتت به الأدلة فقد جاء بضد التعظيم
ونقيضه، ولهذا قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لمن أطراه: "أنا محمد بن عبد الله بعد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" (1)، فمن عظمه صلى الله عليه وسلم بما لا يحب فإنما أتى بضد التعظيم، والتعظيم الحق قد دل عليه الشرع ومحله القلب واللسان والجوارح.

أما التعظيم بالقلب فهو ما يتبع اعتقاد كونه رسول الله من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ويصدق هذه المحبة أمران:

أحدهما: تجريد التوحيد لله سبحانه وتعالى، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، فنهى أن يُقال "ما شاء الله وشئت"، وأن يُحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك، ونهى أن يصلي إلى القبور، وأن تتخذ مسجداً أو عيداً، أو أن يوقد عليها السرج، أو غير ذلك مما قرره صلى الله عليه وسلم أتم التقرير بقوله وفعله وهديه، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم إنما يكون بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه.

الأمر الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه، والرضا بحكمه والانقياد له والتسليم والإعراض عمن خالفه، وعدم الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله، كما كان ربه تعالى وحده المعبود المألوه المخوف المرجو المستعان لا شريك له.
_______________________
(1) المسند (3/ 153)، وصحيح ابن حبان (رقم: 6240) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة (رقم: 1572).
 
أما تعظيمه صلى الله عليه وسلم باللسان، فيكون بالثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به على نفسه وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير، فكما أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه، فالغالي المفرط كذلك، وكل منهم شر من الآخر من وجه دون وجه، وأولياؤه سلكوا بين ذلك قواماً.

أما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه وإعلاء كلماته ونصر ما جاء به، وبتصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر، والموالاة والمعاداة والحب والبغض لأجله وفيه، وتحكيمه وحده بالرضا بحكمه (1).

فهذا هو مدار دينه عليه الصلاة والسلام، وبهذا يكون تعظيمه وتوقيره، وهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم النافع للمعظم في معاشه ومعاده، خلافاً لمن سلك في حقه صلى الله عليه وسلم جانب الغلو والإفراط، أو جانب الجفاء والتفريط، وكلا هذين قد أضاعوا الواجب عليهم تجاه رسولهم الكريم محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه وبركاته.

وقد ثبت عن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ"، رواه البخاري (2)، ورغم وضوح هذا المنهج وبيانه إلا أن أهل الأهواء أبوا إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه وناقضوه أعظم المناقضة، وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله وأنه لا يدعي ولا يستغاث به ولا ينذر ولا يطاف بحجرته ونحو ذلك، أن في ذلك هضماً لجنابه وغضاً من قدره وانتقاصاً من شانه، وقد جهل هؤلاء أن التعظيم للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إنما يكون بالمتابعة له في هديه ولزوم نهجه وترسم خطاه، لا بالأهواء والضلالات والبدع والمنكرات.
_______________________
(1) انظر: الصارم المنكي لابن عبد الهادي (ص: 452 - 454).
(2) صحيح البخاري (رقم: 3445).

التصنيف من التوسل الباطل دعاء الصالحين من دون الله
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0