التصنيفات

قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوٓا إِلَيْهِ ٱلْوَسِيلَةَ} (1)، وقوله: {أُولَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (2).

تقدم الحديث عن التوسل أو ابتغاء الوسيلة إلى الله وهو لفظ شرعي ورد في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوٓا إِلَيْهِ ٱلْوَسِيلَةَ} (1)، وقوله: {أُولَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓ ۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (2).

وهذه الوسيلة التي أمر الله أن تبتغي إليه وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه، وهي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك سواء كان محرماً أو مكروهاً أو مباحاً.

والواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم فأمر به أمر إيجاب أو استحباب، وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يمكن أن يقال إن جماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا بذلك.
_______________________
(1) سورة المائدة، الآية: (35).
(2) سورة الإسراء، الآية: (57).

وسبق الإشارة إلى أنواع ثلاثة من التوسل قام الدليل على مشروعيتها في دعاء المسلم لربه، وهي التوسل إلى الله بأسمائه، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة والتوسل إليه بدعاء الصالحين الأحياء. ولكن ينبغي على المسلم أن يعلم أن لفظ الوسيلة والتوسل صار فيه إجمال واشتباه في إطلاقات الناس وفهومهم بسبب كثرة الأهواء وانتشار البدع، ولهذا فإن الواجب أن تعرف معانيه ويعطي كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه من ذلك، وأيضاً ينبغي أن يعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه، إذ إن المفاهيم الخاطئة في هذا الباب قد كثرت، والأهواء والبدع فيه عمت وانتشرت، فأدخل في معنى التوسل أمور كثيرة محدثة لا أصل لها ولا أسس، لم تكن موجودة زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن معروفة في شيء من الأدعية المشهورة بينهم.

وأخطر ما كان ويكون في هذا الأمر هو دعاء الأموات والغائبين والاستغاثة بهم وسؤالهم وإنزال الحوائج بهم، وطلبهم وقضاء الحاجات، وكشف الكربات، وشفاء المرضى ونحو ذلك، وتسمية ذلك توسلاً، فجعل هؤلاء لفظ التوسل متكأ لهم نشروا من خلال هذه الأمور الكفرية والضلالات الخطيرة، وحقيقة هذه الأمور أنها توسل إلى الشيطان لا إلى الرحمن وإلى الضلال والباطل لا إلى الحق والهدى؛ إذ هي من الشرك الأكبر الناقل من الملة والعياذ بالله.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإن قال أنا أسأله لكونه أقرب إلى الله مني، ليشفع لي في هذه الأمور؛ لأني أتوسل إلى الله به كما يتوسل إلى السلطان بخواصه وأعوانه، فهذا من أفعال المشركين والنصارى، فإنهم يزعمون أنهم يتخذون أحبارهم ورهبانهم شفعاء يستشفعون بهم في مطالبهم، وكذلك أخبر الله عن المشركين أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىٰٓ} (1)، وقال سبحانه وتعالى: {أَمِ ٱتَّخَذُوا مِن دُونِ ٱللَّهِ شُفَعَآءَ ۚ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ ٱلشَّفَٰعَةُ جَمِيعًا ۖ لَّهُۥ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (2)، وقال تعالى: {مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (3)، وقال تعالى: {مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ} (4)، فبين الفرق بينه وبين خلقه، فإن من عادة الناس أن يستشفعوا إلى الكبير من كبرائهم بمن يكرم عليه فيسأله ذلك الشفيع، فيقضي حاجته إما رغبة وإما رهبة وإما حياء وإما مودة وإما غير ذلك، والله سبحانه لا يشفع عنده أحد حتى يأذن هو للشافع، فلا يفعل إلا ما شاء، وشفاعة الشافع من إذنه فالأمر كله له" (5) اهـ رحمه الله.

إن تسمية هذه الأمور الشركية توسلاً لا يغير من حقيقة الأمر، ولا يغني من الحق شيئاً، فمجرد الاختلاف في التسمية لا يؤثر تحليلاً ولا تحريماً، فالحلال لو سماه أحد بغير اسمه لا يصبح حراماً، والحرام إذا سماه أحد بغير اسمه لا يصبح حلالاً، فمن أطلق على الخمر غير اسمها وشربها كان حكمه حكم من شربها وهو يسميها باسمها بلا خلاف بين المسلمين.

ولا شك أن الدعاء من جملة العبادات، بل هو أفضل أنواع العبادة، فصرفه لغير الله شرك، وتسمية ذلك توسلاً لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً، فمن دعا المخلوقين من الموتى والغائبين واستغاث بهم كان مشركاً بالله العظيم وخسر الخسران المبين.
_______________________
(1) سورة الزمر، الآية: (3).
(2) سورة الزمر، الآيات: (43-44).
(3) سورة السجدة، الآية: (4)
(4) سورة البقرة، الآية (255).
(5) مجموع الفتاوى (27/ 72 - 73).

ولقد فتح هؤلاء بهذه الضلالات الطريق أمام أعداء الدين لنشر ضلالهم، وإنفاذ باطلهم، والدفاع عن عقائدهم، والكيد للمسلمين، وإليكم قصة عجيبة فيها تجلية لهذا الأمر وبيان لخطورته: لقي ثلاثة من الرهبان شيخ الإسلام ابن تيمية فناظرهم رحمه الله وأقام عليهم الحجة بأنهم كفار، وأنهم ليسوا على ما كان عليه إبراهيم وعيسى عليهما السلام، فقالوا له: نحن نعمل مثل ما تعملون: أنتم تقولون بالسيدة نفيسة، ونحن نقول بالسيدة مريم، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم ونحن كذلك. فانظر أخي المسلم كيف فتح هؤلاء الطريق أمام أعداء الدين عندما شابهوهم في العمل وابتعدوا عن روح الإسلام وحقيقته.

ولهذا أجاب شيخ الإسلام هؤلاء الرهبان بقوله: إن من فعل ذلك ففيه شبه منكم، وهذا ما هو دين إبراهيم الذي كان عليه، فإن الدين الذي كان عليه إبراهيم عليه السلام أن لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له ولا ند له ولا صاحبة ولا ولد له، ولا نشرك معه ملكاً ولا شمساً ولا قمراً ولا كوكباً، ولا نشرك معه نبياً من الأنبياء ولا صالحاً، وذكر رحمه الله أموراً بين فيها حقيقة توحيد الأنبياء والمرسلين بخلاف ما عليه أولئك المبطلون، فلما سمع الرهبان ذلك قالوا له: الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه، ثم انصرفوا من عنده (1).

فهذه القصة فيها عظة وعبرة وفوائد متنوعة، أهمها ضرورة العناية بدين الله عز وجل كما جاء وورد، بعيداً عن انحراف المضلين وضلال المبطلين، والله وحده المستعان.
_______________________
(1) مجموع الفتاوى (1/ 370- 371).

التصنيف التحذير من الانحراف في فهم معنى التوسل
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0