التصنيفات

روى الترمذي عن طَلْحَةَ رضي الله عنه: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ"

لقد ورد في السنة دعاء يُستحب للمسلم أن يقوله عند رؤية الهلال من كل شهر، فيه سؤال الرب سبحانه أنه يجعل هذا الشهر الذي هل هلاله شهر يُمن وإيمان وسلامة وإسلام، وهي دعوة مباركة يحسن بالمسلم أن يدعو بها كلما رأى الهلال.

روى الترمذي عن طَلْحَةَ رضي الله عنه: "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ" (1).

وقبل الدخول في معاني هذه الدعوة المباركة، لنقف قليلاً نتأمل في هذه الآية الباهرة الدالة على عظمة الرب سبحانه وكمال قدرته، يقول ابن القيم رحمه الله: "وانظر إلى القمر وعجائب آياته، كيف يبديه الله كالخيط الدقيق، ثم يتزايد نوره ويتكامل شيئاً فشيئاً كل ليلة حتى ينتهي إلى إبداره وكماله وتمامه ثم يأخذ في النقصان حتى يعود على حالته الأولى؛ ليظهر من ذلك مواقيت العباد في معاشهم وعباداتهم ومناسكهم، فتميزت به الأشهر والسنون، وقام به حساب العالم مع ما في ذلك من الحكم والآيات والعبر التي لا يُحصيها إلا الله" (2). ا هـ.
_______________________
(1) سنن الترمذي (رقم: 3451)، وحسنه الألباني - رحمه الله - في صحيح الجامع (رقم: 4726).
(2) مفتاح دار السعادة (2/ 27).

وقد عد الله في القرآن الكريم هذا ضمن آياته العظام وبراهينه الجسام، يقول الله تعالى: {وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّۢ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلْعُرْجُونِ ٱلْقَدِيمِ لَا ٱلشَّمْسُ يَنۢبَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ ٱلْقَمَرَ وَلَا ٱلَّيْلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍۢ يَسْبَحُونَ} (1).

وقوله: {وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَٰهُ مَنَازِلَ} أي: ينزلها، كل ليلة ينزل منها واحدة، إلى أن يصغر جداً فيكون كالعرجون القديم، أي: كعذقة النخل إذا قدم وجف وصغر حجمه وانحنى، ثم يهل في أول الشهر ويبدأ يزيد شيئاً فشيئاً حتى يتم نوره ويتسق ضياؤه، فما أعظمها من آية، وما أوضحها من دلالة على عظمة الخالق، وعظمة أوصافه سبحانه، ولا ريب أن التأمل في هذه الآية وغيرها مما دعا الله عباده في كتابه إلى التفكر فيها وتأملها يهدي العبد إلى العلم بالرب سبحانه بوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وسعة علمه وكمال حكمته، وتعدد بره وإحسانه، ومن ثم يخلص الدين له ويفرده وحده بالذل والخضوع والحب والإنابة والخوف والرجاء، فهي دلالة ظاهرة وبراهين واضحة على تفرد الله بالربوبية والأألوهية والعظمة والكبرياء.

ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال كبر؛ لأنه آية عظيمة على عظمة الرب وكبريائه، والتكبير تعظيم الله واعتقاد أنه أكبر من كل شيء وأنه لا شيء أكبر منه، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث عدي رضي الله عنه: "فَهَل مِنْ شَيءٍ أَكبَرُ مِن اللهِ" (2).
_______________________
(1) سورة: يس، الآيات (37-40).
(2) المسند (4/ 378)، وصحيح ابن حبان (الإحسان) (رقم: 7206).

بل إن التكبير مشروع عند رؤية كل كبير وعظيم ليبقى القلب ليس فيه اشتعال إلا بتكبير الله وتعظيمه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: التكبير مشروع في المواضع الكبار لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة؛ ليبين أن الله أكبر، وتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء تلك الأمور الكبار، فيكون الدين كله لله، ويكون العباد له مكبرون، فيحصل لهم مقصودان: مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله، ومقصود الاستعانة بانقياد سائر المطالب لكبريائه" (1).

أما تكبير النبي صلى الله عليه وسلم عند رؤية الهلال فقد رواه الدارمي من حديث عبد الله عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى الْهِلَالَ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ وَالتَّوْفِيقِ لِمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى رَبُّنَا وَرَبُّكَ اللَّهُ" (2).

ولنبدأ هنا في الكلام على معنى الحديث، قوله: "إِذَا رَأَى الْهِلَالَ" الهلال هو غرة القمر لليلتين أو لثلاث، وفي غير ذلك يُقال له قمر.

وقوله: "أَهِلَّهُ عَلَيْنَا" أي أطلعه علينا، وأرنا إياه.

وقوله: "بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ" الأمن هو الطمأنينة والراحة والسكون والسلامة من الآفات والشرور، وفي حديث طلحة "باليُمْن" واليمن هو السعادة، والإيمان هو الإقرار والتصديق والخضوع لله.

وقوله: "وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ" السلامة هي الوقاية والنجاة من الآفات والمصائب، والإسلام هو الاستسلام لله والانقياد لشرعه.
_______________________
(1) مجموع الفتاوى (24/ 226).
(2) سنن الدارمي (رقم: 1678)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 139): "فيه عثمان بن إبراهيم الحاطبي، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات".

وقوله: "رَبَّي وَرَبُّكَ اللَّهُ" فيه إثبات أن الناس والقمر وجميع المخلوقات كلها مربوبة لله مسخرة بأمره خاضعة لحكمه، وفي هذا رد على من عبدها من دون الله {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُوا لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (1).
ثم إن الحديث فيه فوائد كثيرة أشير إلى شيء منها.

فمن فوائد الحديث أن فيه بياناً للفرق بين الإيمان والإسلام وأنهما ليسا شيئاً واحداً عندما يجتمعان في الذكر، بل لكل واحد منهما معنى خاص، فالإيمان يراد به الاعتقادات الباطنة، والإسلام يراد به الأعمال الظاهرة، أما عند إفراد كل واحد منهما بالذكر فإنه يكون متناولاً لمعنى الآخر.

ومن فوائد الحديث أن الأمن مرتبط بالإيمان، والسلامة مرتبطة بالإسلام، فالإيمان طريق الأمان، والإسلام طريق السلامة، ومن رام الأمن والسلامة بغيرهما ضل، والله تعالى يقول: {ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوٓا إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (2).

ومن فوائد الحديث أن فيه لفتة كريمة إلى أن أهم ما تشغل به الشهور وتُمضي فيه الأوقات هو الإيمان بالله وبما أمر عباده بالإيمان به، والاستسلام له سبحانه في كل أحكامه وجميع أوامره.

ومرور الشهور على العبد مع الانشغال عن هذا المقصد الجليل ضياع للشهور وحرمان من الخير، فالشهور لم تخلق ولم توجد إلا لتكون مستودعاً للإيمان والأعمال، وهذا إنما ينجلي أمره للناس عندما يفقون يوم القيامة بين يدي الله ليروا نتائج أعمالهم وحصاد حياتهم وثمرة أوقاتهم.
_______________________
(1) سورة: فصلت، الآية (37).
(2) سورة: الأنعام، الآية (82).

قال ابن القيم رحمه الله: "السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجداذ يوم المعاد، فعند الجذاذ يتبين حلو الثمار من مرها" (1). اهـ

ونسأل الله أن يُصلح أوقاتنا جميعاً، ويعمرها بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحبه ويرضاه، وهو ربنا لا رب لنا سواه.
_______________________
(1) الفوائد (ص: 292).

التصنيف ما يُقال عند رؤية الهلال
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0