التصنيفات

قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ" فمن حفظ الله حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجه، ومن كان الله حافظه وأمامة فممن يحاف وممن يحذر؟

إن من الأدواء الفتاكة والشر العظيم ما يكون في الإنسان من مرض بسبب السحر أو العين أو الحسد، والسحر له تأثير بالغ في المسحور، فقد يمرض وقد يقتل، وهكذا الشأن في عين الحاسد إذا تكيفت نفسه بالخبث، واستجمع في قلبه الشر، فإنه يضر بالمحسود، فربما أمرضه وربما قتله، فالسِّحرُ له حقيقة وتأثير، والحسد له حقيقة وتأثير.

وإن من نعمة الله على عبده المؤمن أن هيأ له أسباباً مباركة وأموراً نافعة، يندفع بها عنه شر هؤلاء، ويزول بها عنه ضرهم والبلاء النازل به بسببهم، وقد أجمل العلامة ابن القيم - رحمه الله - ذلك في عشرة أسباب عظيمة إذا قام بها العبد وطبقها زال عنه شر الحاسد والعائن والساحر.

السبب الأول: التعوذ بالله من شره والتحصن به واللجأ إليه، كما قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ  مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِى ٱلْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }.

والله تعالى سميع لمن استعاذ به، عليم بما يستعيذ منه، قادر على كل شيء، وهو وحده المستعاذ به، لا يُستعاذ بأحد من خلقه، ولا يُلجأ إلى أحد سواه، بل هو الذي يعيذ المستعيذين ويعصمهم ويحميهم من شر ما استعاذوا من شره.

وحقيقة الاستعاذة الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك ويحميك منه، ولا حافظ للعبد ولا معيذ له إلا الله، وهو سبحانه حسب من توكل عليه، وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف ويجير المستجير، وهو نعم المولى ونعم النصير.

السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، فمن اتقى الله تولى حفظه ولم يكله إلى غيره، قال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْـًٔا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (1) وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ" فمن حفظ الله حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجه، ومن كان الله حافظه وأمامة فممن يحاف وممن يحذر؟

السبب الثالث: الصبر على عدوه وأن لا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلاً، فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه، وكلما زاد بغي الحاسد كان بغيه جنداً وقوة للمبغي عليه، يقاتل  بها الباغي نفسه وهو لا يشعر، فبغيه سهم يرميها من نفسه إلى نفسه {وَلَا يَحِيقُ ٱلْمَكْرُ ٱلسَّيِّئُ إِلَّا    بِأَهْلِهِۦ ۚ}  (2) فإذا صبر المحسود ولم يستطل الأمر نال حسن العاقبة بإذن الله.

السبب الرابع: التوكل على الله، فمن يتوكل على الله فهو حسبه، والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، ومن كان الله كافيه فلا مطمع فيه لعدو، ولو توكل العبد على الله حق توكله، وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجاَ من ذلك وكفاه ونصره.
_______________________
(1) سورة: آل عمران، الآية (120).
(2) سورة: فاطر، الآية (43).

السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له، فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره، فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه، فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه، بل انعزل عنه لم يقدر عليه، فإذا تماسكاً وتعلق كل منهما بصاحبه حصل الشر، وهكذا الأرواح سواء، فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى عدم القرار ودام الشر حتى يهلك أحدهما، فإذا جبذ روحه عنه وصانها عن الفكر فيه والتعلق به، وأخذ يشغل باله بما هو أنفع له بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضاَ، فإن الحسد كالنار، إذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضاً.

السبب السادس: الإقبال على الله والإخلاص له وجعل محبته ونيل رضاه والإنابة إليه في كل خواطر نفسه وأمانيها، تدب فيها دبيب تلك الخواطر شيئاً فشيئاً حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية، فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب والتقرب إليه وذكره والثناء عليه، قال تعالى عن عدوه إبليس أنه قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ} (1)، فالمخلص بمثابة من آوى إلى حصن حصين، لا خوف على من تحصن به، ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمع للعدو في الدنو منه.

السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، فإن الله تعالى يقول: {وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (2) فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب، يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره، وفي الدعاء المشهور: 
_______________________
(1) سورة: ص، الآيتان (82- 83).
(2) سورة: الشورى، الآية (30).

"اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم" (1)، فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب، وليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عوفي من الذنوب عوفي من موجباتها، فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح من الذنوب التي كانت سبباً لتسلط عدوه عليه.

السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه؛ فإن لذلك تأثيراً عجيباً في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد، فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة، والصدقة والإحسان من شكر النعمة، والشكر حارس النعمة من كل ما يكون سبباً لزوالها.

السبب التاسع: أن يطفئ نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذى وشراً وبغياً وحسداً ازددت إليه إحساناً وله نصيحة وعليه شفقة قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّيِّئَةُ ۚ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُۥ عَدَٰوَةٌ كَأَنَّهُۥ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّٰهَآ إِلَّا ٱلَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍۢ} (2)، وتأمل في ذلك حال النبي عليه السلام الذي حْكِي عنه نَبِيًّا صلى الله عليه وسلم أنه ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ فجعل يسلت الدم عنه وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" (3).
_______________________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد (رقم: 719) من حديث معقل بن يسار، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح الأدب (رقم: 551).
(2) سورة: فصلت، الآيتان (34- 35).
(3) صحيح البخاري (رقم: 3477)، وصحيح مسلم (رقم: 1792).

السبب العاشر: تجريد التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بأن كل شيء لا يضر ولا ينفع إلا بإذن الله، قال الله تعالى {وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّۢ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍۢ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِۦ} (1)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ" (2)، فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه اخون عليه من أن يخافه مع الله، يل يفر الله بالمخافة، ويرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل، والله يتولى والدفع عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، فإن كان مؤنتاً فالله يدافع عنه ولا بد، وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه، فإن كمل إيمانه كان دفاع الله عنه أثم دفع، وإن مزج مزج له، وإن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة، كما قال بعض السلف: "من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة، ومن اعرض عن الله يكليته أعرض الله عنه جملة، ومن كان مرة ومرة فالله له مرة مرة".

فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين، قال بعض السلف: "من خاف الله خافة كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء".

فهذه عشرة أسباب عظيمة يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر (3)، ونسأل الله الكريم أن يقينا والمسلمين من الشرور كلها إنه سميع مجيب.
_______________________
(1) سورة: يونس، الآية (107).
(2) سنن الترمذي (رقم: 2516)، وصححه الألباني - رحمه الله - في صحيح الجامع (7957).
(3) انظر بدائع الفوائد لابن القيم (2/ 238 - 246).

التصنيف التعوذ من السِّحر والعين والحسد
المصدر الدَّعَوَاتُ وَالْأَذْكَارْ اَلمَأثُورَةُ عَنِ النَّبِيَّ المُخْتَار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَومِ وَاللَّيْلَةِ
عدد المشاهدات 0